ما أغرب ذاك الرجل.. كل شيء تغير في دنيانا هذه وفي حياتنا.. إلا هو.. باق كما هو، على حاله منذ أزمنة غابرة.. أزمنة ما قبل التلفزيون والانترنيت والتلفون الثابت والنقال.. رجل نجا ربما إلى الأبد من رياح التغيير ومن أحكام التطور والاختراعات العلمية والتكنولوجية التي قلبت حياتنا وغيرت واقعنا وأفكارنا وعلاقاتنا وجيوبنا.. رجل لازال يأتي كل صباح يدق بابك حاملا جرابه على كتفه وينادي باسمك ليسلمك مظروفا أو رسالة جاءتك من بعيد أو من قريب.. نادرا ما ننتبه إليه ونادرا ما نقدر ما يقوم به من خدمات ويتجشمه من مشقة من أجل أن يضع تلك الورقة أو تلك الرسالة في يد صاحبها.. تراه يجوب الأحياء ويلف الأزقة ويصعد السلالم ويعد أرقام العمارات والمنازل حتى يعثر على العنوان المنشود والشخص المقصود فيسلمه البريد الذي وصله من مكان ومرسل ما.. ساعي البريد هذا الشخص العتيق لازال يعمّر يومياتنا.. ولا زال يقوم بعمله كما كان يقوم به في الماضي البعيد.. شيء واحد تغير: نظرتنا إليه، اهتمامنا به.. ما عدنا نوليه نفس الاهتمام.. ما عدنا ننتظره بنفس اللهفة.. بل نكاد لا نحس بوجوده وهو يمر من أمامنا بخطواته المتباعدة السريعة ومحفظته المتدلية على كتفه وقلمه المرشوق خلف أذنه.. أصبح يمر كالطيف بيننا.. لا نعير بالا لا له ولا لما بين يديه.. تخلصنا من ذاك الانتظار القلق، وذاك الشوق الذي كان يملؤنا في زمن الهدوء والرومانسية.. زمن الدفء والبساطة الإنسانية والعلاقات المفعمة بالحنين والوعود وترقب بشارة أو عودة غائب عزيز. الكمبيوتر ووسائل الاتصال العصرية لغت كل هاته المتع التي تعطي لحياتنا نكهة أخرى.. ما عدنا ننتظر تلك الرسالة التي يحملها إلينا ساعي البريد.. نتسلمها منه بقلب خافق.. نفتحها بأياد مرتعشه.. نقرؤها بأعين تريد أن تصل إلى آخر كلمة في لمحة واحدة.. ما عاد وجود لهكذا أشياء في يومياتنا.. البريد الالكتروني والتكنولوجيا عوضت كل ذلك وجعلته في خانة الأشياء التي تضحكنا عندما نتذكرها.. بريد أسابيع وشهور أصبحنا نتلقاه لحظة كتابته في وقته الحقيقي.. انتحرت المسافات بين الناس وأصبح البشر لصق بعضهم البعض تكنولوجيا، وغرباء عن بعضهم البعض عاطفيا وعلاقاتيا وإنسانيا.. ساعي البريد هذا الكائن التحفي الصامد في وجه التطور..أفقدته التكنولوجيا وتبعاتها وهجه وقلبت دوره من مصدر فرح وبشائر إلى مصدر إزعاج وغضب لأن وظيفته حاليا انحسرت تقريبا في تسليم استدعاءات نخشاها وفواتير نكرهها، أو كشوفات حسابات بنكية أو بريدية لا طائل منها .. ومع ذلك تبقى دهشتنا كبيرة لهكذا إصرار وصمود أسطوري.. لهكذا مهنة لم تنجح الثورة التكنولوجية في التخلص منها والقضاء عليها.