اعترف بأني عندما اقترحت على رئيس التحرير كتابة شيء عن مسيرة الفنان القدير خليفي احمد ووافق، شعرت بالعجز ليس لعقم في القلم أو البيان، بل لأن المستهدف أقوى من أن اكتب عنه. تمنيت مقابلته وإجراء حوار معه، ولكن نظرا لظروفه الصحية التي تمنع ذلك اكتفيت بالحديث إلى بعض أصدقائه ومن عرفوه، وأحد أقاربه وهو الأستاذ احمد قدوري، ومن جملة ما قالوا فيه أنه إنسان جدي في حياته سواء العائلية أو الفنية، وصارم في مواقفه، محافظ على أصوله الصحراوية، بصوته دغدغ مشاعر الملايين، ونقر على وتر الأحاسيس فبث الدفء في قلوب الجميع.. ارتقى بفنه إلى مرتبة الأعمال الفنية الخالدة، راعى فنه موجبات الجودة الفنية والأخلاق العالية.. كان لا يختار أغانيه بل هي التي كانت تختاره وتناديه لثقتها في حسن صوته وأدائه المتيمز.. أمتع المتلقي دون أن يسيء إلى الفن أو يهاجم من خلاله المبادئ والقيم.. كانت تلك الروائع التي يطالعنا بها في كل عرض تأملات للطبيعة واستخلاصا للقيم الجمالية التي تغمرها.. غنى في أكبر العواصم العربية، وهاهو اليوم يبتعد عن الأغنية في هدوء يرمقها بنظرة أخيرة بنفس النظرة التي كان يزن بها أغانيه قبل أن يقدمها إلى المستمع.. وعلى أي حال فان الأجيال القادمة من الفنانين ستعتبره مدرسة للفن الصحراوي والغناء البدوي، وقالوا إن السبب وراء نجاحه هو أنه عرف كيف يسيطر على الكلمات ويحافظ على هدوئها ومعانيها.. فأبدع وتألق وأبهر كبار الشعراء بأدائه الراقي والمتميز . ولد الفنان القدير خليفي احمد واسمه الحقيقي العباس أحمد بن عيسى في عام 1922 في بلدة سيدي خالد في ولاية بسكرة، وينتمي إلى عرش أولاد عبد الرحمان بن خليفة المرابطون الأشراف المنحدرون من سلالة الأدارسة نسبة الى إدريس الأكبر رضي الله عنه حسب قول قريبه ترعرع في بيئة محافظة ودرس القرآن الكريم على يد عدد من المشايخ الأجلاء ، وقد اخبرنا ابن صديق طفولته الأستاذ احمد قدوري أن الشيخ الحاج خليفة معلم القرآن كان يجتمع بالطلبة بعد انتهاء وقت التدريس، ليلقى على مسامعهم بعض المدائح الدينية، وكان يطلب منهم إعادتها، ويضيف محدثنا أنه لا احد كان يجيد ذلك باستثناء خليفي احمد، الذي كان يلقيها كما تلقاها من الشيخ، وكان الوحيد الذي يتقن فن المديح. كان يهوى الفن فتعلم المدائح على يد خاله الحاج بن خليفة، وبدأ مسيرته الفنية في سن العشرينات من عمره فغنى لكبار الشعراء أمثال عبد الله بن كريو من الأغواط، ومن سيدي خالد الشيخ سي بن يوسف المتخصص في الشعر الصوفي والمدائح الدينية، ومن بين هذه القصائد: * سالوا سالوا* وقصيدة * اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد * وغنى للشاعر الشيخ السماتي ومن كلماته * ياقمري * وغنى للشيخ بن قيطون أغنية * حيزية * وكانت أولى أغانيه في الإذاعة الوطنية، وغنى للشاعر محمد بن خيرة من الجلفة، وكان معجبا بالشاعر * العلواوي * الحاج يحيى من حاسي بحبح وغنى للشاعر *بن علال* من قصر الشلالة أغنية * قلبي تفكر عربان رحالة* غنى أيضا خليفي احمد للثورة فقال في ذلك * كنا نبعث رسائل مشفرة في الأغاني لدعم الثورة* كان أخوه الأكبر عازف القانون في الإذاعة الجزائرية ينتمي إلى فرقة جبهة التحرير الوطني أثناء الثورة التحريرية حافظ الفنان البدوي الأصيل على الأغنية الصحراوية، وغنى جميع طبوع الفن الصحراوي والتي تفوق السبعة، إذ لم يسبق لأحد قبله وربما بعده أن يغنيها. نال شهرة واسعة بهذا الفن باعتراف وشهادات عدد من المخرجين والفنانين الكبار، ووفقا لما ذكره احد المخرجين في التلفزيون أن العمل مع خليفي احمد صعب للغاية من كثرة الاهتمام.. كان يستدل بشعر الشافعي * سافر ففي الأسفار خمس فوائد * فكان كثير السفر والترحال في شتى بقاع العالم وشارك في عدة مهرجانات عربية وعالمية وتحصل على الميدالية الذهبية بدمشق في مهرجان الأغنية العربية. وكانت الأغنية التي شارك بها هي *كلمني ونكلمك بالتيليفون* وهي أغنية صحراوية من كلمات الشاعر رابح درياسة، إلى جانب حصوله على عدد من الميداليات الذهبية التي نالها في بعض المهرجانات العربية التي شارك فيها في كل من المغرب وتونس وسوريا وحتى في باريس، وتم تكريمه من طرف الملك المغربي الراحل الحسن الثاني أثناء حفل العرش الملكي وألبسه الجبة المغربية كهدية له.. كان الرئيس التونسي بورقيبة يطلب من الرئيس الراحل هواري بومدين الذي كان هو الآخر معجبا بغنائه أن يحضر خليفي أحمد حفلات تونس، وتم تكريمه عدة مرات في الجزائر من طرف الوزير شريف رحماني والوزير السابق للثقافة حمراوي حببيب شوقي وكُرم من طرف فناني مدينة الجلفة في السنوات القليلة الماضية بشهادات تقديرية عرفانا لما قدمه للساحة الفنية.. غنّى خليفي أحمد بجانب اكبر الفنانين العرب أمثال أم كلثوم ووديع الصافي الذي كان معجبا بصوت خليفي احمد *لأنه صوت عربي أصيل* هكذا كان يقول وديع الصافي، وغنى في عديد من الحفلات الرسمية وغير الرسمية في جميع ربوع الوطن.. كانت من أمنياته أن تكون هنالك مدرسة يتم فيها تعليم طبوع الفن الصحراوي. خليفي الآن ماكث في بيته يقال بأنه مريض بحكم كبر سنه، ويقضي جل وقته في قراءة القرآن الكريم.. هكذا أدى خليفي واجبه وغنى حقبة من الزمن كما فعل أمثاله الكبار وأعمدة الفن العربي، كالفنان رابح درياسة، والبار عمر، وعبد الحميد عبابسة، والحاج قروابي، ودحمان الحراشي، وأحمد وهبي، ومحمد الطاهر الفرقاني، وغيرهم ممن لم تمت أغانيهم، ولم يسدل الستار عليهم.. فهل يليق من الهيئة الثقافية أن تنسى مثل هؤلاء العظماء الذين خلت الساحة الفنية من أمثالهم وأصبحت تموج بالفوضى؟. هل يعقل أن ننسى هؤلاء الذين افنوا أعمارهم من اجل إسعاد وإدخال البهجة في قلوبنا نحن الجزائريين وفي قلوب محبيهم من العرب؟، أما آن الأوان أن نذكر من ساهموا في إثراء ساحتنا الفنية وقدموا لنا فنا نظيفا طاهرا.. أم أننا ننتظر حتى نفقد من بقي منهم على قيد الحياة لنتحسر على أخطاء صنعناها.. وأخيرا تحية محبة وتقدير من جريدة ''الحوار'' إلى هؤلاء الأعمدة، والى بلبل الصحراء القدير خليفي احمد وعائلته، متمنين له الشفاء العاجل والعودة إلى الساحة في القريب العاجل.