من سياسة ترك السياسة إلى سياسة صناعة السياسة على بعد لحظات زمنية ستحتفل الجزائر بالذكرى السادسة والخمسين لثورة الفاتح نوفمبر المجيدة.. مجد من خطط لها وروج ومد يد العون لها ولأهلها بعد أن يئس أهل هذا البلد على بكرة أبيهم واقتنعوا أن استرجاع الحقوق من المغتصبين لن يكون ذا فائدة إذا اقتصر على الكلام والأدب والفن والسياسة. فقناعة ذلك الجيل وصلت بهم إلى أن كل المجالات ميادين خصبة لغرس المقاومة وتعهدها ولن يكون لها أثر ما لم يعضدها عمل مسلح تحت يافطة ''ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بقوة مماثلة أو أشد'' وكانت أشد. إذ الناظر إلى سياقات تلك المرحلة التي سبقت تفجير الثورة في ربوع هذا الوطن المفدى لا يعوزه الفهم أو تنقصه النباهة ليدرك أو بالأحرى ليرى بأم عينيه كيف أن فرنسا الاستعمارية جسدت مقولة ''فرق تسد'' في الواقع كما جسد إخواننا النصارى وفق معتقدهم بطبيعة الحال ''كلمة الله أو ابنه في عيسى عليه السلام''، والفارق بين التجسيدين، أن الثاني كان لحمل خطايا البشر بالافتداء صلبا، والأول تجسيد لنهب خيرات هذا البلد الآمن بمشمولاتها المادية والمعنوية والبشرية خدمة لإنسان الضفة الشمالية من البحر المتوسط، ما دامت الخطايا والأوزار تحملها الله وهو يمنح البشرية من فرط حبه لهم ابنه الوحيد ليقتل صلبا على الأشهاد. هذا الافتداء وفق المعتقد النصراني جعل هؤلاء الوافدون إلى أرض زاخرة بالخيرات المادية والمعنوية والبشرية يضيفون إلى قائمة الصلب فضلا عن المسيح عليه السلام ملايين الجزائريين طيلة مسيرة دموية فاقت القرن وربع القرن من الزمن، وما كان لهؤلاء الأوغاد أن يطمئنوا إلى أفعالهم الإجرامية لولا التشتت والتفرق الذي أصاب أهل هذا الوطن وهو يدفع ثمن سيادته على المنطقة لقرون عديدة بمفاهيم العدالة والحرية والفكر والإبداع وبعيدا عن مفاهيم الصلب والافتداء والدماء والدموع. وكما أدرك هؤلاء الأخيار الذين صنعوا مجد ثورة الاستقلال أننا ندفع ثمن سيادتنا السابقة وريادتنا التي حفظت لنا الكثير من صورها الدواوين والأسفار المتعددة، اقتنعوا أن للمداراة حدود وأن الانخراط في سياسة العدو أفق مسدود لا يحفظ وطنا من النهب والتآكل، ولا يرجع سيادة مسلوبة ولا يرهب عدوا حاله وحال من انخرط في سياسته كحال الفراش المبثوث في مدارات المصابيح والنيران كلما اقترب منها احترق فداء للمسيح والاستعمار والمصالح الضيقة والأحداث التافهة. ومن هنا اقتنع الجمع بعد تمحيص بمقولة ''لا يفل الحديد إلا الحديد''، وأن سياسة لا تهم في صناعتها وصياغة معالمها ليست سياسة، والبون شاسع بين ممارسة صناعة السياسة والانخراط في سياسة، لأن الأولى تحمل مضامين التاريخ والأصالة والهوية والامتداد أو بالملخص المفيد تحمل معاني القضية والمسؤولية التاريخية تجاهها، والثانية تحمل كل معاني التملق والمصالح الشخصية الضيقة التي لا تعرف أهلا ولا وطنا، بقدر ما تشرعن للمستعمر المستدمر وتكون يدا له على إخوانه وبني جلدته ممن يقاسمونه الأرض بكل ما تحمله الأرض من معاني ظاهرة وباطنة. وعلى ما سبق سيعي الجمع أن نصرة الذات الجمعية والقيام بمصالحها لا يكون إلا بما لها فيه نصيب من الصناعة والتدبير ''ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب'' لأن الحضن ليس متاحا ل ''أولاد الحرام''، والحضن مكان يعبر لا يمكن الولوج إليه دون جوازات السفر البنوة والارتباط الوثيق بالأم والأرض، وما اقتصار أبائنا وأجدادنا الشهداء والمجاهدين في طعامهم على ''الكسرة'' و''التمر'' و''الزيت'' و''الزيتون'' و''التين'' طازجه ومجففه، واعتمادهم على البغال والحمير والجمال في الحل والترحال إلا رسالة أخرى ومعنى آخر من معاني الحضن والاحتضان والارتباط الوثيق بالذات الجمعية في مقابل المستعمر الغريب، لأن كل ما سبق سياسة انعتاق من الانخراط في سياسة الشرعنة للمستعمر إلى صناعة السياسة التي أجبرت فرنسا الاستعمارية على الرضوخ إلى مطالب أهل الأرض والتي كانت أساسا تطهير الأرض من رجسها وسياستها بأهلها، وذلك درس من دروس ثورة نوفمبر المجيدة في فقه السياسة.