01- وأنت ترحل بين الروابي السمراء المطلة على السهوب امتداد الأفق يبهرك جمال تضاريسها الأخاّذ ويأسرك صفاء جوها المنعش، ترى نفسك منجذبا إلى الطيبين من هؤلاء السكان وهم يحتضنون أحلامك ويطفئون أحزانك، فأنت هنا في الهضاب العليا غير بعيد عن سفوح جبال الأطلس ألتلي وسلاسلها تقف على تلال مخضّبة بالاخضرار، وعلى أديم تلك ألأراضي الفسيحة يترآى لك من بعيد جبل شامخ كسفينة استوت على الجود وقد عبرت أحقاب التاريخ، تسأل نفسك أليس هذا حضن من حواضن ثورة التحرير المباركة؟بلى ..أليست هذه قلعة من قلاع التاريخ الصامدة؟بلى.. ثم لا تلبث أن تجد الجواب في متناولك، في جوف هذا الشموخ {الكاف الأخضر} ينام شيء من التاريخ وبعض من هذا الشيء آثار عاصمة دولة الحماديين {أشير}ت لك الآثار التي تجعلك تغوص في سراديب الحكاية وتعود بالسنين القهقرى فتقرأ كتابا في الطبيعة مفتوحا يحكي أخبار الحياة الغابرة وينبئك بحضارات سادت وبادت، وأناسا كانوا هنا ذات زمان ورحلوا من مكان إلى مكان، أنت تلمس هذا في الواقع المعيش وبالحدس ويبهرك المشهد، فتستأنف انبهارك وإعجابك وفي ذينك حديث، فشذى عطر الأمجاد الفوّاح مازال هنا تحركه الأيام ويعبق به القلب والمكان، لعلك تستعيد من خدر الذاكرة ملامح الوفاء والنسيان، الشك واليقين، الأمل والوهن، فتتأرجح بين الخيال والحقيقة في موجات الرجاء وضاجّة الأيام ، ولكي تسترد كل الأمنيات والذكريات وتعيد بعث الماضي فعليك أن تستريح هنيهات عند عتبة التاريخ المضمّخة بعطور الوطنية، رجال صدقوا ما عاهدوا الله، ففي هذه التلال الصامتة مدوّنات ملأى بالأخبار مفتوحة في كهوف الدهر فيها وصايا وحكما وأخبار الماضي تترى، فالقارئ للتاريخ يبدأ من هنا، فيغازل الدواة ويكتب بمداد الكبرياء صحوة الضمير، ويقف متأملا طويلا مستقرئا مستشرفا مستفسرا من أغرى السهوب أن تنتفض؟هل الأسماء تثور؟ تلفعت بصمتها حينا لتصرخ وامعتصماه، تفزع أطيافها من نبات السدرة والحلفاء والشيح والبر واق، ومن تلك المنابت وذلك الفضاء ذي اللون السرمدي الحافل بالمشاهد يسترجع قصة احتلال الجزائر، كيف حدث الاحتلال ؟ ومتى ؟ ولماذا؟وكيف بدأت المقاومة تلك التي فجرها الأمير عبد القادر و أرّخ لفعلها بوعي العلماء، ومن الجراحات المعتقة صنع الأحرار الرحلة الجهاديّة وشكلوا معالمها المضيئة قصصا يشيب لها الولدان وحوادث حابله بالعبر والمفاجآت تطل عليك من غبش المسافات المظللة في عتمات الليل وللحوادث الكبرى مفاتيحها، فخذ أجملها من ثورة نوفمبر الغراء وأنعم بها من ثورة، اقرأ صحفا قيّمة كتبها الأحرار بلسان حال الزمان وقل بصوت التاريخ البعيد جاهرا الاستعمار كارثة و وباء، لم يأت هنا للفسحة وإنما جاء ليعيد غزوات أسلافه وليلتهم حضارة أمة وينهب شعبا ويسلبهما كنوزا، جاء ليزرع البؤس والجهل والفتن ويتربع على عرش الأحرار، وان آثامه في هذه الديار لكثيرة وبشاعة جرائمه تظل محفورة في تلا فيف الذاكرة منحوتة بسواد الأحزان رسمها في الصخر وعلي حبات الرمال تعانق الأزل، فمن يوم وطئت نعاله أرضنا الطيبة إلى أن خرج غير مأسوف عليه يجر أذيال الهزائم كان شعاره فرق تسد. 02- ففي السهوب قبّالة هذا الجبل الأشم من الناحيّة الجنوبيّة انتشرت بعض القبائل الفارة من بطش الاستدمار واستقرت أخرى وعاشت أسرة منصور كيانا متحركا في هذه الأرياف السهبيّة المترامية الأطراف، تجوبها صيفا وتستقر فيها شتاء بحثا عن الكلأ لماشيتها في مراعي دافئة، وفي غدوها ورواحها من شلاله العذاورة المجاهدة إلى برّ المويعدات الآمن البيرين، ترتع في تلك ألأراضي ألفلاحيّه الخصبة المعشوشبة والتربة المعطاء عند ينابيع الماء الزلال المتدفقة سيوله في أوديّة تروي عطشى الشجيرات المثمرة حياة وسخاء، وآبار ماؤها لذة للشاربين، في هذه البيئة نشأ منصور وقضى طفولته في كنف أبوين كريمين متوسطي الحال،ترعرع في نسيج عائلي متماسك محافظ، في بيوت هشّة مبنية بالطوب والطين كانوا يتحركون داخلها كالأشباح تحيط بها زريبة للأغنام حذوها اصطبل للأبقار، هناك قبو لتربية الأرانب وخم للدجاج ، أمام الحوش مرتع للخيول فالقوم لا يبتعدون عن أغنامهم قيد أنملة ولا يتسامحون إنهم يحرسون كل الحرس على أن الدواب والإبل لا تنوخ إلا قرب أهلها، وان منازلهم لم تتغير رغم مرور الزمان فهي كالأدغال تكاد تلتصق بالأرض كساكنيها، قرب البيادر مطامر لخزن الحبوب وأكداس من حزم التبن تخالها أهرامات مصر العظيمة، قطعان البقر والخراف تراها هائمة متنقلة بين المراعي تجول وتتردد على ينابيع الماء، والرعاة يتنادون مصبحين، مازال منصور يذكر ذلك اليوم المشؤوم عندما كان يلعب مع الأطفال لما رأوا مجموعة فرسان يركضون بسرعة قادمين نحوهم،والناس قد هرعوا يستقبلونهم خوفا من ظلمهم ومن كان قريبا من داره اختفى، يفزع الأطفال مذعورين ويتوقفون عن اللعب ثم يصطفون على جانب الطريق صامتين مندهشين، يرمقون هذه الوجوه المغضّنة الغاضبة والتي لايرونها إلا في مناسبات كالموت، فهم يأتون إلى الدشرة عادة من أجل تجنيد الشباب في عساكر العدو أو لفرض الضرائب أو إلقاء القبض على احد الشباب وفي بعض الأحيان يجمعون الخراف من اجل إقامة وليمة لزائر من العساكر، كانوا شؤما لايأتون بالخير أبدا، منصور واثنين من بعض رفاقه المراهقين لم يتحرّكوا من أمكنتهم واشتغلوا بألعابهم، تقدّم منهم دركيّ وسألهم في عنجهيّة وبلغة حمقاء مالكم لا تقومون؟ ماذا كنتم تفعلون؟ قالوا: كما ترى نحن نلعب ولاشيء غير هذا، أيشغلكم هذا عن الوقوف ؟ يهوون عليهم ضربا بالسياط ثم يربطونهم إلى ذيول الأحصنة بوقاحة واحتقار ويجرونهم بعيدا كما تجر الشياة النافقة ثم يأخذونهم مكبلين إلى سجن القائد،يقف الشباب مصدومين أمام هول الفاجعة، فيتعالى صراخ الأطفال وقد كثر لججهم وتعالى صخبهم، أقبلت أمّ منصور متودّدة تستعطفهم وتتلطف إليهم فتقول: والد منصور مات في الحرب العالمية فلم يبالوا بمقولتها بل يدفعها الحركي بقوّة إلى أن تسقط على قفاها مغمى عليها ويحاول عمه أن يتحدّث معهم بلطف فيصفعه الدر كي ويشتمه، تخرج الأمهات باكيات أبناءهن المخطوفين وألسنتهن تصدح بالدعاء،يقف الآباء منكسين رؤوسهم متأسفين خافضين أجنحة الذل يسألون الى متى؟ لقد تعاظم الخطب وكثر البلاء ولا سبيل لرد الصائل إلا بلغة يفهمها واللغة أضحت جاهزة في مخابر أهل السياسة وفي زناد البارود حتى وان كان الأمر عسيرا والطريق مظلما، يفزع الأطفال خائفين مذعورين يتهامسون ثم يتنادون كانوا يبحثون عن وسيلة لإنقاذ منصور ورفاقه قبل أن يذهبوا بهم بعيدا ولا يعودون، بحثوا عن مكان حبسهم، إنهم مربوطون في الاصطبل مع البهائم أجل إنهم يئنون متألمين ومعهم ثلاث فتيان من البدو الرحل جاؤوا بهم من المراعي كانوا مقيدين يرقدون تحت المزا ريب يتوسّدون أضلاع الحزن وينتظرون شقاء يضاف إلى شقائهم، المشهد حزين يحرك القلوب ويلهب المشاعر، دلهم ابن القائد على المكان وكان الفتى شابا مهذبا شفوقا ساعدهم على دخول الاصطبل بعد غروب الشمس واستأنف الصمت ولازم البيت إلى حين، فتسللوا من الباب الخلفي، فكوا وثاقهم وقيد الفتيان الثلاثة ليركض الجميع بسرعة هاربين، لم يتفطن لهم الخدم ولم ينتبه لهم الشانبيط، كانت ليلة ثقيلة على أهل الدشرة، كان الوعد والوعيد، قصد منصور أخواله واختفى عندهم أياما، التحق الفتيان بالجبل معتصمين بحبل الله ينتظرون ساعة الفرج، أرسل القائد الشنبيط وأعوانه، فتشوا البيوت عنهم واقتفوا اثر الشباب وقد شغلوا بهم أياما وليالي وما وجدوهم ومن يومها صارت المجالس تعج بالحديث عن الجهاد،وقد آن الأوان للبراكين أن ترمي بحممها على الظالمين، فالجزائريون ليسوا بقايا الأمس ولا شجرة فقدت نضارتها وتعرت من أوراقها،لعلهم يتوهمون ذلك، نحن أبناء اليوم هكذا قال الشباب وشجرة تتهيأ لتلد شهي الثمار كما يردد الكبار في مجالسهم صباح مساء. 03- في جو هذه العاصفة الهوجاء المحمومة يرحل منصور إلى زاوية الهامل ليمكث فيها ست سنوات، كان لا يزور الدشرة إلا متسترا تحت أجنحة الظلام، هو يدرك أن القائد لا يتردّد في إذلال الأسر ولو لأبسط الأسباب وأتفهها ليرضي أسياده وليبرهن لهم أنه خادم أمين لكن هذه الحادثة جعلت الدنيا تضيق في عينيه وتضعه موضع الاختبار فيضيف إلى عجزه عجزا، تحدث إلى أعيان العرش غاضبا وقال مخاطبا: أبهمكم أمر أطفال على مصالحنا؟ كيف تقدّمون أبناء الرعاع على القائد وتخذلونه أمام رجال الدرك؟ وكيف تعتبرون هذه التصرفات الخطيرة هفوات عابرة؟ ما كان الأمر ليتم هكذا سبهللا وتسكتون، قال حكيم القوم الحاج بن سعد إنكم سيدي تضخمون الأمور وتظلمون الناس، أليس رجال الدرك هم الذين يستفزون الشباب ويتحرشونهم؟ أعوان فرنسا كلاب مسعورة جعلوا داء الكلب يغزو أجسادهم ، صارت تبحث عن حذفها بظلفها، وتحرض على محاربتها، إنها تهيئ الناس للثورة والتمرد دون وعي مسؤوليها،البطانة السيئة تفسد عقول الحكماء، فما يقومون به يومئذ يتجاهل إنسانية الإنسان، بل يدوس على كرامة المواطن البريء، تنهد القائد وقال: مستأنفا حديثه هذا صحيح، أصدقكم القول أن فرنسا بدأت تفقد توازنها منذ أحداث 1948 وأنها بدأت تهتز داخليا ويتآكل بنيانها، نعتقد أن حلفاءها كانوا وراء ذلك، حرروها من مخالب النازية لكنهم جعلوها تتدثر بلباسها بل فاقتها طغيانا، سوف ابذل جهدا لأقنع الحاكم، انصرف الأعيان بعد لقائهم بالقائد صامتين، ولما ابتعدوا قال أحدهم :عجب أمر القائد ومن يطبل لهؤلاء الخنازير ما عدنا ندرك مقاصده ولا نثق فيه ولا في بطانته الآثمة الأمر تجاوز قنطرته، قال الإمام :شكرا والله ما شككت في رجاحة عقولكم وكنت أخشى منكم وعليكم والآن يتبين لنا أننا على رأي واحد، جمرة الفتنة اشتعلت والقائد لا يستطيع أن يجعلها بهذه السهولة رمادا،أعرف مدى استغرابكم بما حدث ويحدث وأنصحكم بأن تتجاهلوا الأمر إلى حين، الأمور تعرف تصعيدا خطيرا وهذا يعجل بالثورة التي تفضي لا محالة إلى استعادة السيادة، الشعب كله يتهيأ ليوم آت لا ريب فيه.. لقد حدث ذات تاريخ أن سلبت فرنسا أراضي العروش الخصبة بالقوّة وسلمتها إلى المعمرين والمستوطنين، وما تبقى من الأرض كان من نصيب القائد وأسرته، استولوا على الخيرات كلها وعاش أصحاب الأرض القهر والإذلال وسوء الحال منهكين على طول، ففي هذا الليل الاستعماري المقيت لا ترى ولا تسمع إلا ما يسؤك ويبدّد أحلامك، وما هي إلا أيام حتى بدأت تهب رياح الثورة ولقد ازداد الظلم كلاحة مع انفجارها، ازدادت الأسر الفقيرة بؤسا وفاقة، كانوا يعيشون ألوان الاستبداد في هوامش الحياة خمّاسين أجراء وبؤساء بطالين، كانوا ينتظرون ساعة الفرج وقلوبهم متلهّفة إلى حرب التحرير وقد دوى صوتها واشتعل أوارها، فمرحى..مرحى.. هبّ شباب الريف فرنسانا أشدّاء لنصرتها والاستعداد لها، ولا مفر من ذلك، الزمن يومئذ مبكرا لخوض غمار الحرب، والشباب لهم عزمات الثبات، ووثبة الأبطال، حسبك أنهم أبناء بررة لم يبارحوا أراضيهم المغتصبة رغم ما أصابهم من حيف وعنت، ليس صمودهم هذا تبلدا ولا غباوة، وإنما تشبثا بالأرض الطيّبة، وذودا عن حياضها، وفي صمود المرء وتشبثه بأرضه وبحقوقه تولد الأمنيات بوسع فسحة الأمل والعيش الكريم، ولو تعجلت النتائج لقلت ماذا أبقى الاستعمار للجزائريين؟ .../...يتبع