وكان أشد خلق الله تشجيعا للناشئين، وتنشيطا للعاملين، يحاول أن يوصل الناس جميعا إلى المثل الأعلى، لا يرفعهم جميعا إليه، فإنه لا يمكن أن ترفع الناس كلهم إليهم، ولكنه يقربه إليهم، ويسهل بلوغه عليهم، حتى ترتفع بهم هممهم إلى محاولة بلوغه. وكان يقول لأصحابه: - إن جاءكم من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام فلا تقولوا له: إن هذا مستحيل، بل علموه. فلعل اشتغاله هذه الثلاثة الأيام بالنحو، تحببه إليه، فيقبل عليه. وكان كلما رأى مخايل النجابة في أحد سيره في طريق العلم، ووصله بشعبة من شعبه، وكان أكثر اهتمامه بإدخال العلم إلى بيوت (الأكابر) وهو الذي دفع صديقنا الأستاذ سامي العظم (وكيل وزارة العدل السورية بالأمس ونزيل مصر اليوم إلى طريق الباب. وكان له وهو شيخ ذهن رجل درس في أوربة، معرفة بقيمة هذه العلوم الجديدة، وبالصحافة وأثرها، وبالعمل المنظم. فرغ من أمر طعامه ولباسه، فكان مضرب الأمثال في ذلك، وكانت ثيابه عجبا من العجب، لأنه لم يكن يفكر فيها، ولا يريد منها أكثر من أن تستر وأن تدفئ، وكان يتخذ من جيوب الجبة مكتبة، ففي جيب كتاب مخطوط، وفي جيب رسالة، وفي جيب أوراق ودفاتر، وفي الجيب الرابع.. خبز وقطع من الجبن ومن الحلاوة.. حدثني الشيخ قاسم القاسمي رحمه الله، أن أصحابه رأوا جبته قد أبلتها الأيام وصيرتها شيئا نكرا، فاحتالوا عليه حتى اشترى جبة جديدة، وأخفوا عنه القديمة فاضطر إلى لبسها، ولم يكن أصعب عليه من لبس الجديد، وذهبوا به إلى مجلس في (دمر) في قصر الأمير عمر الجزائري، وكان المجلس حول بركة عظيمة لها نافورة عالية مشهورة، وكان فيه جلة علماء ذلك المشرب، الشيخ عبد الرزاق البيطار والشيخ جمال الدين القاسمي وأمثالهما، وإذا بالشيخ ينزع الجبة، ويقوم بها إلى البركة فينزل بها فيها: غمسا غمسا، ثم ينشرها على شجرة، حتى تجف وتنكمش وتقرمد فيلبسها، وسأله سائل منهم، فيقول: - كانت جديدة شغلتني بالخوف عليها عن العلم، فالآن استرحت من التفكير فيها. كان يسهر الليل كله، يدور على بيوت أصحابه ومريديه، أو يقبع يدرس ويؤلف، وكان أكثر مقامه في مدرسة عبد الله باشا في طريق بين البحرتين في دمشق القديمة، فإن كن مشغولا وطرقه طارق، أطل فقال له: ''مشغول، عد في وقت آخر''، مهما كانت منزلته. حدثني أحد وجهاء العامة، قال: - ذهبت إليه مرة، فردني، وأبى أن يدخلني، فتألمت وأزمعت هجره، ثم قلت، أعامله بمثل ما عاملني به، فجاءني مرة، ففتحت له، وقلت: ''مشغول، عد في وقت آخر''، فذهب مسرورا يقول: ''بارك الله، هكذا، هكذا، (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا)، صدق الله''. فإن دخل عليه الغليظ من حيث لا يشعر، دفع إليه كتابا، وقال: ''خذ، اقرأ هذا''، وتركه وعاد إلى ما كان فيه. ومن قوله في ذلك: ''إشغلوهم (يعني الغلاظ'' قبل أن يشغلوكم''. وكان يطيل المشي وحده، ومعه كراس ينظر فيه، مشى يوما في (وادي الشاذروان) في دمشق، وهو أجمل أودية الدنيا بإجماع أئمة الذوق، فلحقه أحد الثقلاء، وكان من عادة الشيخ الإسراع في المشي. فجعل يسايره يسرع معه، يحدثه حديثا له أول وليس له آخر، عن جده الذي مات ومن ورثه، وكيف قسموا الإرث، وخلاف من خالف في ذلك، وما يقول كل من الفريقين المختلفين، حتى وصل معه إلى قريب (الهامة)، والشيخ لا يسمع منه ولا يلتفت إليه، حتى انتهى فقال: - سيدي. هل أصبنا أم أخطأنا؟ فما رد عليه، فأمسك بيده حتى إذا انتبه، قال: - هل أصبنا أم أخطأنا؟ - قال: نعم بلى (وكانت هذه لازمته) نعم بلى، الإنسان يخطئ ويصيب، الإنسان يخطئ ويصيب. وترك الرجل مصعوفا من الدهشة، ومضى... أما إباؤه، وعزته في نفسه، فلم يكن بعدهما زيادة لمستزيد. نزح إلى مصر، لما ضاقت الشام وحكامها بدعوته، وأخذ يبيع من كتبه ومن ذخائر المخطوطات التي أفنى حياته في اقتنائها، وكان يأبى الثمن الغالي من مكتبة المتحف البريطاني، وأمثالها من المؤسسات الأجنبية، أو من أفراد الناس الذين يشترون الكتب للتجارة، ويبيع بنصفه لدار الكتب المصرية، ليبقى الكتاب في أيدي العرب، ولا يخرج منها إلى أيدي الإفرنج. فلما كادت تنفد كتبه، سأل أحمد تيمور باشا الشيخ علي يوسف أن يكلم الخديوي (وذلك سنة 1913) في منحه مرتبا دائما أسوة بمن كان يمنحهم المرتبات من العلماء والأدباء، ونجحت الوساطة، ومنح الراتب، فلما أخبر به غضب أشد الغضب، وقال للشيخ علي: - كأني بك قلت للخديوي: إن الشيخ طاهر أثنى عليك. نعم إني أثنيت عليه لتأييده مشروع زكي باشا في خدمة الكتب العربية، ولكن ما الذي يضمن لك، ألا يأتي الخديوي ضد هذا العمل الطيب يوما فأذمه؟ فلماذا تسود وجهك بسببي؟ ومن أذن لك أن تدخل نفسك في خصوصيات أمري، إذهب فأبطل ما سعيت بإتمامه.. ورجع يعيش عيش الكفاف والتقتير بأثمان ما بقي من كتبه. فكان الشيخ علي يوسف، يقول بعد ذلك: - كنت أن أن هذه الطبقة قد انقرضت، فلما رأيت الشيخ طاهرا علمت أنه لا يزال على وجه الأرض بقية منها. وبعد فإني ما رأيت الشيخ، ولكني رأيت آثاره الخيرة في كل مكان، والثناء عليه، وذكر مناقبه على كل لسان. كان من المؤلفين المكثرين، إن عد المؤلفون المكثرون، وكان من أئمة المربين إن ذكر المربون، وكن من رؤوس المصلحين، ومن العلماء العاملين، وكان من الأركان الكبار في هذه النهضة التي نأوي اليوم إليها، ونتفيأ ظلالها، وننعم بخيراتها. رحمه الله، وطيب ذكراه.