من منا لم يسمع بقصيدة عربية هزت أركان العرش العباسي يقول صاحبها في مطلعها ''صوت صفير البلبل هيّج قلبي الثمل''، والأجمل في القصيدة سياقاتها التي جاءت بها. فقد حكت لنا كتب الأدب عن ذلك الخليفة العباسي المستعين بديوان من حفظة الشعر لأول أو ثاني أو ثالث سماع للقصيدة، مما يجعل كل رام لجائزة الخليفة في الشعر يشك في إبداعه، ويجد من يحفظ قصيدته عن ظهر قلب، بل يجد أولا وثانيا وثالثا من الحفظة. هذا الأمر الجلل جعل من الشاعر الأصمعي يبدع قصيدة أبانت عوار الخليفة واستهزاءه بأهل الشعر، واستخفافه بالإبداع، فقصفه الرجل بما يستحقه من أبيات يصلح معظمها لأن يكون ضمن نوادر التوقيعات ''الإمضاءات'' لغرابة تركيبها وقوتها. هذا المقام التاريخي ساقنا إلى استحضاره تلك الهبة الساركوزية ضد ''الحثالة''، و''الأوباش''، وأبناء الضواحي من الذين تفننوا في عزف سنفونيات بأفواههم، مشوشين بذلك على النشيد الوطني الفرنسي، في المباراة الكروية التي جمعت فريق بلاد الجن والملائكة بنظيره -عفوا- التونسي، مما جعل فرنسا تعيش النفير العام جراء هذا السلوك غير الحضاري في نظرهم -طبعا-، وتقرر عدم لعب مبارايات ودية مع بلدان المغرب العربي، في الوقت الذي يشكك فيه بعض أبناء جلدتنا في تضحيات من طردوا علم فرنسا ونشيدها من ربوع الجزائر بطريقة أقل ما يقال عنها إنها كاريكاتورية. والغريب في الأمر أن فرنسا ذاتها احتلت ونهبت وروعت ورفضت الاعتراف والاعتذار عما اقترفته في بلاد من تصفه الأوباش سنين عديدة وأزمنة مديدة، كما دافعت في الوقت ذاته عن حرية التعبير لما أساء بعض إعلاميي أوروبا لخاتم الأنبياء والمرسلين. وإن كان موقف باريس من سكان ضفة المتوسط الجنوبية معروفا رغم تبشيرها بالاتحاد من أجل المتوسط فكرة، وحمل رشيدة داتي له صبيا، لرسكلة الرعاع والاستفادة منهم بما يخدم مصالحها، إلا أن الأجمل في القضية هي قدرة الحكومة الفرنسية على المناورة وتحويل الرأي العام من الأزمة المالية العالمية التي تعتبر باريس إحدى ضحاياها وأكثر المهددين بها إلى إبداعات الجمهور المغاربي في الاحتجاج على الوضع القائم، من خلال تصفيرة على وزن قصيدة يقولون في مطلعها ''صوت صفير البلبل''