هذا مشهد رأيته لأول مرة في حياتى ، وأتمنى أن يكون الأخير، هو مشهد لفتاة تدرس الطب قامت بإلقاء جسمها الغض من أعلى طبقة في موقف للسيارات، ولهول المشهد فإنني مااستطعت أن أرى ماكان من زمن سقوطها الحر بين عزم الإلقاء بنفسها، ولحظة الوقوع على الأرض . كنت أتصور قبل هذه القصة ماكنت أقرأ من شأن المنتحرين، وماكنت أستطيع تخيل أن يعمد المرء إلى بنيان الله الذي صوره الخالق المبدع في أحسن تقويم فيهدمه، إما بالكسر أو بالحرق كما هو معروف عند الهنود، أوبالطعن وتمزيق الأمعاء أو الشرايين. ورجعت بفكري إلى ماكتب عن الانتحار فقرأت فيها هذا الذي أنقل محتواه: الانتحار هو التصرف المتعمد من قبل شخص ما لإنهاء حياته. ويرى آخرون أنه قتل النفس تخلصا من الحياة التي وهبها الله لعباده، وقد اختلفت الآراء حول الانتحار هل يعكس شجاعة الشخص المنتحر أم جبنه وانعكاس لفشله وعدم الحاجة لاستمرار حياته؟. وفي ظني أنه لا أجبن من المنتحر الذي يتعجل إنهاء حياته في مقابل التخلص من أوهام وضغوط يكابدها، وفي اعتقاده أنه سيتخلص من آلامها حينا، ومافكر في الآماد التي ستلحق بعد لحظة الألم هذه. وقد علمنا مما درسناه من قيم وتعاليم، ومما قرأناه في العلوم الحديثة أن أكثر الناس سعادة هو الذي ينجح في مكابدة آلام الحياة وضنكها وضيقها دون أن يخضع جانبه أو يلين طرفه، ليخرج بعدها فرحا مسرورا يشعر بحلاوة النجاح، ويحس حلاوة الانتصار. لماذا يعيش الإنسان في دائرة ضيقة من الهموم لا يحس من ورائها بسعة الحياة ومباهجها ، ولا يتمثل فيها قول الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي : كن جميلا تر الوجود جميلا. لماذا النظر دوما إلى نصف الكأس الفارغة، والنقطة السوداء في الثوب الأبيض، ولماذا لا نُحكِّم منطق ذالكم الذي حكَم الطبيب أنه سيموت في غضون أيام من مرض خطير أصابه، فخرج هذا المريض من عند طبيبه لينفذ فكرة كانت تدور في مخيلته منذ زمن الطفولة ، وهو أن يطوف أكبر قدر من بلدان المعمورة في رحلة بحرية، وأخذ في تنفيذها، وراسل أباه أثناء هذه الرحلة ليقول له: إنها كانت أسعد أيام حياته لأنه استمتع فيها حقيقة بما بقي من عمر ، ولأن ماحدده الأطباء من الأيام المعدودات قد جاوزه إلى أشهر ، وهاهو باق على قيد الحياة، وأما ماكان قد حُظر عليه من أنواع المأكولات فقد استمتع به كاملا، ومن دون قيد... تتأسف كثيرا لأن الجم الغفير ماستطاع أن يصنع من الليمونة المرة شرابا حلو المذاق، وبغض النظر عن النسب التي تذكر من أن حوالي 35% من حالات الانتحار ترجع إلى أمراض نفسية وعقلية كالاكتئاب والفصام والإدمان.و65% يرجع إلى عوامل متعددة مثل التربية وثقافة المجتمع والمشاكل الأسرية أو العاطفية والفشل الدراسي والآلام والأمراض الجسمية او تجنب العار أو الإيمان بفكرة أو مبدأ فإن الأمر في مبدئه ومنتهاه يعود إلى ماغُرز في النفس البشرية منذ نعومة الأظفار، وكيفية مواجهة الشدائد والصعاب بمثل ماتلقاه آباؤنا أثناء ثورة التحرير المباركة، وماكابدوه من أهوال ومخاوف تشيب لها الولدان، وفقر مدقع دفعهم إلى أكل التبن وأوراق الشجر، وبمثل مايتلقاه الآن إخواننا في غزة الصامدة- صحبهم الظفر، وحفتهم السكينة.