تؤدي اللقاحات دورًا مهمًّا للغاية في الوقاية من العديد من الأمراض وتحسين الصحة العامة، ولكن هل فكرت أننا قد نجد يومًا ما لقاحًا ضد مرض السرطان؟ لا داعي لإرهاق ذهنك بالتخيل، فالعلم يقول إننا ربما نكون قريبين من تحقيق ذلك. وفقًا للإحصائيات فإن حوالي 4 أشخاص من كل عشرة سوف يتم تشخيصهم بالسرطان في مرحلةٍ ما من حياتهم (38.4%)، لذلك يستحوذ السرطان على اهتمام الباحثين في جميع أنحاء العالم. السرطان ليس مرضًا واحدًا، ولكنه عدة أنواع، تختلف اختلافًا كبيرًا في أسباب حدوثها وطرق علاجها. والعلماء في بحث مستمر عن أفضل طرق العلاج لكل هذه الأنواع المختلفة. وعلى نحوٍ مستمر، تُنشر العديد من الأبحاث عن طرق متنوعة لعلاج السرطان، تتضمن العلاج المناعي، والعلاج باستخدام تكنولوجيا النانو، وغيرها من التقنيات العلاجية الحديثة. والأخيرة هذه أصبح لها دور كبير في مجالات شتى، ومنها بطبيعة الحال المجال الطبي؛ إذ تُبشر نتائج الأبحاث بإمكانية حل العديد من المشكلات الطبية باستخدام التقنيات النانوية، فمن الممكن أن تكون أداةً لتوصيل اللقاحات داخل الجسم أو لتنشيط الجهاز المناعي، وكذلك تطوير لقاحات وقائية وعلاجية للعديد من الأمراض. ويعمل الباحثون أيضًا على دمج علاجات مختلفة مع تقنيات النانو للوصول إلى أفضل النتائج. في هذا الإطار، نُشرت دراسة حديثة أجراها فريق مشترك من الباحثين، في كلٍّ من جامعتي تل أبيب ولشبونة – في دورية نيتشر نانوتكنولوجي- تفيد بأن فكرة تطوير لقاح ضد مرض السرطان أصبحت قريبة جدًّا بفضل تكنولوجيا النانو التي ساعدت في التغلُّب على بعض عيوب وعوائق تطوير اللقاحات العادية، وحسَّنت من نتائج بعض العلاجات الأخرى مثل العلاج المناعي. * التغلُّب على بعض العوائق تؤدي اللقاحات دورًا مهمًّا للغاية في الوقاية من الأمراض وتحسين الصحة العامة منذ أن جرى تطوير أول لقاح في عام 1796 على يد إدوارد جينر، وهو عالِم بريطاني طور لقاحًا ضد مرض الجدري. منذ ذلك الحين تم ترخيص إنتاج أكثر من 70 لقاحًا ضد ما يقرب من 30 ميكروبًا مُمْرِضًا. على الرغم من ذلك التقدم إلا أنه لا يزال يوجد العديد من الأمراض التي لم يتم تطوير لقاحات ناجحة ضدها مثل التهاب المفاصل الروماتويدي، والإيدز، والملاريا، وأمراض المناعة الذاتية المزمنة. هناك العديد من المشكلات التي تواجه مطوري اللقاحات بأنواعها؛ إذ تهدف اللقاحات إلى تنشيط الجهاز المناعي لمهاجمة المرض، ولكن قد لا يتم ذلك التنشيط بقدرٍ كافٍ في حالة اللقاحات التقليدية، كما أنها تكون غير مستقرة بدرجة كبيرة داخل الجسم، وربما تكون سامة وغير آمنة أيضًا. كذلك تحتاج اللقاحات التقليدية إلى ظروف معينة في النقل والتخزين مثل الحفاظ على درجة حرارة معينة، وتطلب أكثر من جرعة. من أجل التغلب على هذه العوائق اتجه العلماء إلى اللقاحات النانوية. تتميز جسيمات النانو بالصغر الشديد لحجمها؛ إذ تتشابه في الحجم مع معظم الميكروبات، ما يجعل مهمة التعرُّف عليها والاستجابة لها من قِبَل الجهاز المناعي أسهل وأفضل من اللقاحات التقليدية. كما أنها تكون أكثر استقرارًا، مما يضمن دوام وجودها في الدم لوقت أطول، ولا تتطلب ظروف نقل وتخزين صعبة، كذلك لا يحتاج المريض إلى أكثر من جرعة، ويمكن توجيهها لاستهداف أجزاء معينة في الجسم. نظرًا إلى هذه المميزات جذبت اللقاحات النانوية انتباه العديد من الباحثين، حاملةً معها العديد من الآمال تجاه تطوير لقاحات أكثر فاعليةً وأقل سُمِّيَّةً لعلاج الكثير من الأمراض، من ضمنها السرطان. وشرع الباحثون في استخدامها إلى جانب علاجات أخرى كالعلاج المناعي. * علاج مناعي في ثوب نانوي يعمل العلاج المناعي عبر تثبيط نقاط التحقق الخاصة بدورة حياة الخلية، وهي نقاط تستغلها الخلايا السرطانية بعدة طرق للهرب من الجهاز المناعي، إلا أن هذا الشكل العلاجي اتسم ببطء معدل استجابة الجسم له، واكتسابه مقاومةً ضد العلاج مع العديد من الآثار الجانبية. مثال على ذلك استخدام الأجسام المضادة لPD-1، وهو بروتين مسؤول عن التعرف على الخلايا الخاصة بالجسم وإيقاف أي رد فعل مناعي تجاهها. تقوم الخلايا السرطانية بتطوير هذا البروتين على سطحها كي تخدع الجهاز المناعي كنوع من التخفي في صورة خلية عادية. وتعتبر الأجسام المضادة لهذا البروتين من أهم وسائل العلاج المناعي. يقول جواو كونيو، وهو باحث رئيسي في الدراسة: إن الجسيمات النانوية التي استخدموها مصممة لاستهداف الخلايا ذات الزوائد Dendritic Cells وتحسين أدائها. وتُعد الخلايا ذات الزوائد نوعًا من الخلايا المناعية تقوم بالتعرُّف على الخلايا الغريبة عن الجسم وتقديم أجزاء منها تسمى المستضد أو الAntigen للجهاز المناعي؛ لتعريفها لباقي الخلايا المناعية على أنها هدف يجب القضاء عليه. يضيف “كونيو” أن اللقاحات النانوية تقوم بإعادة تشكيل التكوين المناعي في محيط الورم، إذ يؤدي اللقاح إلى زيادة عدد الخلايا التائية المضادة للميلانوما داخل منطقة الورم، ويقوم بتحسين استجابة الجهاز المناعي للعلاجات المناعية الأخرى مثل الأجسام المضادة لPD-1. لهذا السبب استخدموا مع اللقاحات النانوية مزيجًا من اثنين من العلاجات المناعية سبق استخدامه في دراسة أخرى على سرطان المبيض، ويتضمن الأجسام المضادة لبروتين PD-1 -من أجل إيقاف التثبيط المناعي- والأجسام المضادة لبروتين OX40 -وهو بروتين آخر يعمل كمُستقبِل على الخلايا ويقوم بتثبيط الجهاز المناعي، ويؤدي إيقافه إلى تحفيز الاستجابة المناعية- جاءت النتائج أفضل بكثير، ولكن ليس كما تمنى الباحثون. * مناورات وعدم استسلام وجد باحثو الدراسة أن الجمع بين اللقاحات النانوية ومضادات PD-1 وOX40 لم يقلل من نمو الورم بالشكل المتوقع، واستمرت الخلايا الكابتة المشتقة من النخاع MDSC بالتدفق إلى خلايا الورم. وتُعد الخلايا MDSC خلايا غير مُرحب بوجودها، إذ تعمل على زيادة مقاومة الخلايا السرطانية للعلاج، وتؤثر على نضج الخلايا ذات الزوائد وكفاءتها الوظيفية. وللتغلب على ذلك، استخدم الباحثون عقار الإيبروتينيب ibrutinib، وهو عقار مثبط للخلايا MDSC ويقوم أيضًا بتحفيز نضج الخلايا ذات الزوائد وزيادة تدفق الخلايا التائية إلى منطقة الورم، مما يُفسح الطريق للقاحات النانوية كي تعمل بكفاءة أكبر. أدى ذلك إلى تحسُّن مستوى استجابة الفئران بشكل كبير وزيادة معدل نجاتها من سرطان الميلانوما. يعلق إسلام خليل -باحث من جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا MUST، غير مشترك في الدراسة- في تصريح خاص ل “للعلم” بأن ما يميز هذه الدراسة عن غيرها هو تحميل اللقاحات النانوية بالعديد من المركبات الدوائية (مضادات PD-1 ومضادات OX40 وعقار الإيبروتينيب) واستهدافها للخلايا ذات الزوائد. ويضيف “خليل” أن العلاج المناعي عن طريق تثبيط نقاط التحقق الخاصة بدورة حياة الخلية أحدث ثورةً في علاج السرطان، ولكنه اتسم بانخفاض معدل الاستجابة ومقاومة الخلايا له، وكذلك ظهور العديد من الآثار السلبية. ولكنه يعود ويشيد بنتائج هذه الدراسة، موضحًا أن استخدام اللقاحات النانومترية -التي تتميز بقدرتها على تعزيز الخلايا المناعية التائية- أدى إلى ارتفاع مستوى حساسية الجسم تجاه الخلايا السرطانية، وكذلك ازدادت قدرة الجهاز المناعي على التعرُّف على تلك الخلايا السرطانية ومهاجمتها على المدى البعيد. * محاربة سرطان الخلايا الصبغية استهدف الباحثون في الدراسة علاج الميلانوما -أو سرطان الخلايا الصبغية، وهو من أخطر الأمراض السرطانية التي تصيب الجلد- مستخدمين جسيمات نانوية حجمها 170 نانومترًا تقريبًا ومصنوعة من بوليمر قابل للتحلُّل الحيوي داخل الجسم. وضع الباحثون على هذه الجسيمات النانوية ببتيدات -سلاسل قصيرة من الأحماض الأمينية المكونة للبروتينات- مطابقةً لتلك التي تنتج على الخلايا السرطانية الصبغية. استعان الباحثون بثلاث مجموعات من الفئران وحقنوها بتلك اللقاحات النانوية. المجموعة الأولى كانت تضم فئرانًا سليمة تم حقنها باللقاح ثم بخلايا الميلانوما بعدها ولم تمرض، مما يعني أن اللقاح أسهم بشكل فعال في الوقاية من المرض. أما المجموعة الثانية فكانت تضم فئرانًا مصابة بورم ميلانوما أولي. أدى استخدام اللقاحات النانوية مع العلاج المناعي إلى تثبيط انتشار السرطان وتطوره، وزيادة عمر الفئران. وفي المجموعة الثالثة كانت الفئران تعاني من ميلانوما في مرحلة متأخرة أدت إلى انتشار السرطان إلى المخ، واستخدمت اللقاحات النانوية كعلاج بعد استئصال الورم. جرى تأكيد النتائج بعينات مأخوذة من نسيج سرطاني منتشر في المخ لدى مرضى الميلانوما. لذا تقترح الدراسة أن العلاج الثلاثي الجامع بين اللقاحات النانوية والإيبوترينيب مع مضادات PD-1 و OX40 سوف يكون علاجًا فعالًا وبديلًا أفضل ل العلاج المناعي المقتصرعلى تثبيط نقاط التحقق لمكافحة الأورام السرطانية. ترجع فاعلية العلاج الثلاثي إلى تحفيز نشاط الخلايا المناعية في منطقة الورم، وليس استهداف الخلايا السرطانية بشكل مباشر. ويوضح “خليل” أن الدراسة تعتبر بداية قوية لأبحاث تهدف إلى تحسين العلاج المناعي عن طريق تثبيط نقاط التحقق الخاصة بدورة حياة الخلية، خاصةً في الأورام الصلبة، من خلال تنظيم الاستجابة المناعية للجسم باستخدام اللقاحات النانوية. فيما يبدو أن اللقاحات النانوية سوف تفتح الطريق لعلاج أمراض أخرى، وليس فقط الميلانوما، فقد أشار “كونيو” إلى أنهم قاموا بتكييف تلك اللقاحات لتعمل مع سرطان الثدي وسرطان القولون أيضًا.