مازالت قوات الجيش التونسي تحكم سيطرتها على العاصمة والمدن التونسية وعلى المطار الرئيسي، وعلى المراكز الحساسة والمحاور الرئيسية. وتعود التونسيون على مشاهد جنود الجيش والأسلاك الشائكة والحواجز العسكرية والدبابات الضخمة، منذ الإطاحة ببن علي. التونسيون اتخذوا من هذه الأخيرة معالم لأخذ الصور التذكارية في شارع الحبيب بورفيبة الذي عادت مقاهيه الموجودة على جانبيه إلى العمل بشكل عادي. كأنك تدخل ساحة حرب في تونس، لكنها حرب صامتة، لا دم ورصاص فيها سوى طلقات البيانات والشعارات السياسية، الدبابات والعربات والمجنزرات العسكرية مازالت تتمركز للأسبوع الثاني في الأماكن الحساسة للعاصمة تونس، ثلاث دبابات تتخذ مواقعها قبالة البوابة الرئيسية لمطار قرطاج، أكبر مطارات تونس، إضافة إلى عدد من الجنود والآليات العسكرية. وفي وسط العاصمة تنتشر قوات الجيش بشكل مركز على طول شارع الحبيب بورفيبة وتغلق المحور الممتد في وسطه بالأسلاك الشائكة. وترابط قوات الجيش أيضا أمام المقر المركزي للتجمع الدستوري وسط العاصمة، والذي حاول المتظاهرون أكثر من مرة اقتحامه وحرقه وتهشيم الزجاج الخارجي للمقر، الذي يقول التونسيون إنه رمز للنظام الدكتاتوري السابق، وبني مقره بدم التونسيين وبأموالهم المسروقة. كما يتمركز الجيش التونسي أمام مقر الإذاعة والتلفزيون والوزارة الأولى في باب السويقة، وأمام مقر الوزارة الأولى ووزارة الداخلية والسفارات الأجنبية والبنك المركزي وغيرها. ويشرف قائد عسكري يوميا على تفتيش هذه الوحدات العسكرية، وترافقه كاميرا لتصوير تواجد الجيش وتلاحمه مع الشعب. وتواجدت ''الخبر''، أمس، خلال عملية التفتيش التي قال عنها القائد العسكري إنها عملية روتينية لاستطلاع الوضع مع الجنود ميدانيا وتذكيرهم بالتعليمات ورفع معنوياتهم، مشيرا إلى أن الجيش التونسي حريص على عدم التصادم مع الشعب. لكن التونسيين الذين أصيبوا بالرعب في الساعات الأولى لنشر الجيش في العاصمة التونسية، تعودوا على مشهد الدبابات المنتشرة في الشارع، وحولوها إلى معالم لأخذ الصور التذكارية وتصوير فيديوهات قصيرة بالقرب منها، وتسليم جنود الجيش باقات الورد ومعانقتهم، احتراما للموقف المشرف للجيش خلال الثورة الأخيرة، في مشهد يحيل إلى استقرار الأوضاع ميدانيا في تونس، حيث عادت المقاهي والمطاعم المنتشرة على طول شارع الحبيب بورفيبة إلى العمل مثلما كانت في السابق، كما عاد تجار ''القصبة'' أو المدينة القديمة وحرفيوها إلى فتح محلاتهم، وعادت حركة النقل بالقطارات والتراموي والحافلات وسيارات النقل الجماعي إلى طبيعتها، لكنها تعاني في المساء من حالة اكتظاظ بفعل تدافع التونسيين على العودة المبكرة إلى منازلهم، قبل توقيت حظر التجول الذي يتم تمديد موعده بشكل تدريجي تمهيدا لرفعه. وفي مقابل العودة التدريجية للحياة الطبيعية إلى تونس، تعيش الفنادق التي هجرها السياح، وشركات النقل السياحي حالة ركود كبير، رغم تخفيضها لأسعارها إلى مستويات دنيا، بعدما رحل الآلاف من السياح وألغيت المئات من رحلات المجموعات السياحية. وينتظر أصحاب الفنادق والعاملون في قطاع السياحة، الذي يشغل ما يقارب المليون عامل، استقرار الأوضاع لاستعادة وهج السياحة في تونس. لعب أبرز دور في ربع الساعة الأخير من سقوط بن علي أي دور للجيش التونسي في المشهد السياسي المقبل...؟ منذ استقلال تونس لم يلعب الجيش التونسي دورا في الساحة السياسية، وظل بعيدا عن أي تطورات سياسية شهدتها البلاد إبان حقبة حكم الرئيس الراحل الحبيب بورفيبة. ومع مجيء الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلى سدة الحكم في تحول السابع نوفمبر ,1987 ازداد بعد الجيش عن الساحة السياسية، خاصة أن بن علي فضل جهاز الأمن، وقام بترقية دور ومساحة عمل جهاز الأمن إلى كل مفاصل الحياة. لعب الجيش التونسي عبر قائد أركانه، الجنرال رشيد عمار، دورا مهما في ربع الساعة الأخير من سقوط نظام الرئيس بن علي، حيث كان صمام أمان الانتقال السلمي للسلطة. وتشير بعض المصادر التونسية إلى أن الجنرال الأقوى في الجيش التونسي، رشيد عمار، عرض على الرئيس بن علي، في اليوم الذي تلى آخر خطاب له، تأمين خروجه مقابل تخليه عن السلطة، وهو ما تم بالفعل. وقبل ذلك، كانت أخبار قد تحدثت عن انقلاب عسكري أبيض من قبل الجيش على الرئيس واعتقاله وقرار ترحيله خارج البلاد. ورافق تردد هذه المعلومات تحرك قوات كبيرة من الجيش باتجاه قصر قرطاج لإجبار الرئيس على التنحي. وبدا واضحا، خلال الأحداث الأخيرة في تونس، أن مساحة الثقة كبيرة جدا بين الشعب التونسي والجيش، على عكس جهاز الأمن والشرطة الذي يتهم بارتكاب تجاوزات كبيرة في حق التونسيين، بسبب هيمنته على الحياة العامة وسقف الفساد الذي تورط فيه عناصره على كل المستويات. وأظهرت الصور التي بثتها القنوات التلفزيونية تلاحما كبيرا بين المواطنين التونسيين وقوات الجيش. وترددت معلومات عن تهديد قوات الجيش لعناصر الشرطة في مدينة صفاقس بإطلاق النار عليهم في حال أطلقوا النار على متظاهرين فروا باتجاه شاحنات الجيش التي تمركزت في المدينة. كما أظهرت الصور التصفيق الحار للتونسيين في مدينة بن قردان لحظة دخول قوات الجيش إلى المدينة بعد إعلان حالة الطوارئ. ومنذ تنحي الرئيس بن علي، استلم الجيش التونسي زمام المبادرة والسيطرة على الشارع والتحكم في الوضع الأمني، وبات وحده يقود مكافحة الجرائم وعمليات النهب التي شهدتها تونس الليلة قبل الماضية، بعد انسحاب قوات الشرطة من الشوارع، واستلام الجيش للمهام الأمنية تبعا لحالة الطوارئ المعلنة. الكثير من الأسئلة تطرح الآن عن الدور المستقبلي للمؤسسة العسكرية في تونس، ورغم أن الجيش التونسي لا يبدو مقبلا على لعب دور محوري في المشهد السياسي مستقبلا، عكس الكثير من تجارب التحول الديمقراطي بما فيها الجزائر، إلا أنه سيكون أكثر الأطراف المستفيدة من التطورات المقبلة، ويتوقع تعزيز دوره من خلال استعادته لمكانته على صعيد الأجهزة الأمنية والعسكرية، بعد تبنيه لخيار عدم التصادم مع الشعب التونسي. وهو ما يعتبره راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، دورا مشرفا جدا للجيش في الأحداث الأخيرة. الجزائر: عثمان لحياني