بغض النظر عن الموقف من العقيد القذافي ونظام حكمه... وبغض النظر عن طبيعة فكر ونهج ومشروع المناوئين له والموقف منهم... تبقى الحقيقة التي لا يمكن القفز عليها هي أن هذا العقيد يحكم ليبيا بذهنية القائد مطلق الصلاحيات منذ إحدى وأربعين سنة، وبالتالي فهو يمثل بالضرورة الماضي، والذين ثاروا ضده يمثلون الحاضر والمستقبل وبالتالي الجديد... وعليه فهم على حق أو في أسوإ الاحتمالات أقرب لواقع الحال من القذافي مشروعا وذهنية وممارسات، خاصة أن هذا العقيد لا يرى لغير المتشبعين بأطروحات الكتاب الأخضر حقا في ممارسة أي نشاط، لأن التحزب خيانة والتمثيل تدجيل ولا نيابة عن الشعب... والنتيجة أن لا نشاط سياسي أو اجتماعي أو نقابي خارج ممارسة الشعب للسلطة... وممارسة الشعب للسلطة بصيغة القذافي تبقى مجرد أوهام في أوهام، وهي لا تختلف كثيرا عن مثالية أفلاطون وأوهامه... لكن مقابل هذا، فإن هذه الأطروحات، رغم وهميتها، مكنت القذافي من أن يصبح هو ليبيا، وليس حاكمها المطلق فقط. لنعد إلى يوميات ليبيا والليبيين ونتساءل... هل يوجد إنسان في العالم بمن في ذلك الرؤساء العرب، بمن فيهم عمرو موسى الذي لم يكن له موقف في حياته قبل اليوم... يقبل أو يرضى باستعمال القذافي للمدفعية والدبابات ضد جزء من شعبه ولا نقول كل شعبه، لأننا نقبل فرضية أن بعض المنتسبين للجان الثورية هم ليبيون وما زالوا موالين لهم؟ أمام هذا... وبعد كل هذا... هل بقي معنى لرفض أي تدخل أجنبي غير معنى واحد هو تمكين من يملك الدبابات والطائرات، وهو القذافي، من إبادة الطرف الآخر الذي هو المعارضة؟ لكن حتى هذه الفرضية غير ممكنة من الناحية العملية، لوجود أطراف أخرى ستقدم حتما على تسليح معارضي القذافي بالمدفعية والدبابات ولم لا الطائرات الحربية، وفي هذه الحالة يصبح من غير الممكن القضاء عليها، وهو ما يعني في المحصلة النهائية إدامة الصراع بين طرفي الصراع -القذافي وخصومه- إلى مدى غير منظور، والذي سيدفع الثمن هو الشعب الليبي برمته وليس أحد أطراف المواجهة فقط. فهل الدول التي ترفض أي تدخل أجنبي، ومنها كما يشاع الجزائر، مع إدامة آلام الشعب الليبي وجراحه؟ إن مجرد التحاق قواعد ووحدات عسكرية ليبية بالثوار وتمردهم على القذافي معناه أن ليبيا الرسمية لم تكن تملك جيشا ولا حتى دولة، لأن التحاق عساكر بالجهة التي تنحاز لها قبيلتهم، يعني أن عقيدة وولاء هؤلاء العساكر للقبيلة وليس للدولة التي ينتمون لها ولجيشها... وأمام هذا الوضع وهذه الحقيقة... نقول جازمين، بأنه كان باستطاعة الجزائر أن تحسم الملف في اليوم الأول لانفجار الوضع في ليبيا، دون أن تنتظر رأي الجامعة العربية أو موقف مجلس الأمن... لكن موقفا كهذا يتطلب، أولا وأخيرا، وجود رؤية سياسية واضحة ومتكاملة وحازمة... وأكثر من هذا يتطلب شجاعة في الوقوف والانحياز دون تردد إلى المستقبل وليس إلى الماضي، لأن الذي ينجح هو الذي يسير إلى الأمام، وليس المتردد الملتفت إلى الوراء. والدبلوماسية الجزائرية من النوع الأخير، وهو ما يجعلنا نجزم بأننا أعجز من أن يكون لنا موقف واضح من الأحداث الدامية عند الجارة ليبيا، ولا نقول التأثير في هذه الأحداث.