عندما أعلنت ''جماعة الفيسبوك'' في ليبيا، 17 فيفري يوما للغضب، كان رد فعل العقيد الذي يحكم البلاد منذ 42 سنة غريبا، لكن بالمقابل منسجما مع خرجاته الغريبة التي لا تنتهي· ومع بداية الإعصار الذي يعصف بالعروش العربية يبدو أن العقيد يعيش خريفه· قبل أيام من بداية الغضب الليبي، أعلن الكولونيل أنه سيشارك في المظاهرة ضد الحكومة، من منطلق أنه فرد من الشعب الليبي الذي ''يحكم نفسه بنفسه'' بمقتضى ''عصر الجماهير'' الذي بدأ سنة 1977 الذي جاء محصلة لتطبيق تعاليم ''الكتاب الأخضر'' الذي ألفه العقيد نفسه، لكن العقيد في النهاية شارك فعلا في مسيرة بالعاصمة طرابلس، لكنها مسيرة مؤيدة للحكم مضادة للمسيرات التي انطلقت في بنغازي والكثير من المناطق الليبية الأخرى· فهل هي بداية ''خريف العقيد'' التي تذكّر برواية الكولومبي الشهير غابريال غارسيا ماركيز ''خريف البتريك''، والعقيد الليبي يشبه في الكثير من ملامحه الغريبة حكّام أمريكا اللاتينية الذين كتب عنهم ماركيز ويوسا وغيرهما من روائيي الواقعية السحرية· مع رحيل الرئيس الغابوني السابق، عمر بانغو، قبل سنوات، كان معمر القذافي والإعلام الليبي يركّزان على فكرة ''رحيل عميد الزعماء الأفارقة''، لا لسبب إلا لأن القذافي نفسه أصبح منذ تلك اللحظة صاحب ذلك اللقب، لكن مع بداية الأحداث التي عصفت بجاريه زين العابدين بن علي وحسني مبارك مع بداية السنة الميلادية الجديدة، بدأ العقيد يتحسس الأرض من تحته ويدرك فعلا أن الإعصار قادم ويحتاج إلى معجزة حقيقية حتى ينجو بعرشه· وبدا واضحا أن العقيد عاجز على التفكير بصفاء مع سقوط جاره بن علي عندما خاطب الشعب التونسي بتلك اللهجة ويقول لهم إنهم لن يجدوا أفضل من ''الزين'' وحينها أدرك المتتبعون أنه كان يخاطب الليبيين في التوانسة، وهو يقول إنهم لن يجدوا ''أفضل من القذافي''، واحتجاج بعد ذلك إلى حوار مع قاة ''نسمة'' التونسية ليخاطب التوانسة من جديد محاولا شرح موقفه الغريب وهو ''يبشرهم'' بالكتاب الأخضر الذي يمكن -حسبه- الشعب من أن يحكم نفسه بنفسه· لا يمكن عزل ظاهرة القذافي عن الألقاب الكثيرة التي تمتع ويتمتع بحملها، بالإضافة إلى لقب ''عميد زعماء إفريقيا'' و''ملك ملوك إفريقيا'' الذي يحمله وأنصاره يهتفون ''نحبوك·· نحبوك يا ملك الملوك''، فهو داعية إسلامي وكثيرا ما أمّ ''الرؤساء وجموع المسلمين في كافة أنحاء العالم''، في أكثر من مناسبة، وهو داعية سلام وقضيته الأولى حاليا هي دعوته إلى منع سلاح الرشاش (الكلاشنيكوف)، وهو مستشرف مستقبلي ويحاضر في كبرى الجامعات العالمية حول ''مستقبل إفريقيا في القرن الواحد والعشرين''، واقتصادي يتحدث عن الخطر الذي يحدق بالاستثمار العالمي· والقذافي يقدّم في ليبيا على أساس أنه أديب قاص، اشتهر بمجموعة قصصية عنوانها ''الأرض ورجل الفضاء''، وصاحب ''جائزة القذافي العالميّة للأدب''· ويوصف بعالم اجتماع وقبل كل ذلك وبعده، ''مبدع النظرية العالمية الثالثة'' التي تجاوزت النظرية الرأسمالية والنظرية الشيوعية، فمع ''الكتاب الأخضر'' أدخل ''الزعيم القائد'' لليبيا والبشرية كلها عصر الجماهير. وكان أول ظهور للقذافي بشكل بارز نهاية سنة 1969 عندما قاد انقلابا ضد الملك إدريس السنوسي، وقيل بأن جمال عبد الناصر قال له ''أنت أمين القومية العربية''، ومن حينها بدأ حلم القذافي للوحدة العربية يتسع يوما بعد يوم، وسمّى إذاعة ليبيا الرسمية ''صوت الوطن العربي الكبير''، وتحوّلت مع إعلان ''الجماهيرية'' سنة 1977 ''صوت الوطن العربي الكبير·· صوت اللجان الثورية''، قبل أن تتحوّل مع تحوّل القذافي الكبير إلى إفريقيا إلى ''صوت إفريقيا''، وهي تختصر التحولات الراديكالية في توجهات ''الزعيم''، وفيها كل ما يتعلق بالكتاب الأخضر، ومعه اختلفت ليبيا عن كل دول العالم، والقذافي معه لم يعد رئيسا ولا ملكا ولا أميرا، ومع ذلك يفتخر بحمل لقب ''ملك ملوك إفريقيا''· وكان قد قاد الثورة في بدايتها، وهو الآن ''يحرّض الجماهير في عصر الجماهير''، فهو الذي حرضها حتى تحوّل حلمها من الوحدة العربية إلى الإتحاد الإفريقي الذي سيتحوّل -حسب فكر القذافي- إلى ''ولايات متحدة إفريقية'' على غرار الولاياتالمتحدةالأمريكية التي كانت إلى وقت قريب عدو ليبيا القذافي رقم واحد، ومع ''أول جماهيرية في التاريخ'' أصبح ليبيا ''يحكمها الشعب مباشرة''، والشعب لا يحتاج إلى حكومة وبرلمان ووزارات بيروقراطية، فهو يحكم نفسه بشكل مباشر دون أي نيابة عنه، وفي النهاية ''النيابة عن الشعب خيانة''، مثلما تؤكد تعاليم الكتاب الأخضر، والاختلاف يمتد إلى رزنامة السنة والتأريخ الذي أصبح مع ''ثورة الفاتح'' لا يبدأ من ميلاد المسيح عليه السلام، ولا حتى من هجرة رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) مثلما أقرّ الخليفة عمر بن الخطاب، بل من وفاة الرسول، والمبرر أن الرسالة المحمدية اكتملت مع وفاة النبي لا مع بداية هجرته، بل أن أشهر السنة في ''أول جماهيرية في التاريخ'' مختلفة تماما، وفيها لمسة القذافي واضحة، فمن بين أسماء أشهر السنة، شهر الناصر (نسبة إلى جمال عبد الناصر زعيم ثورة جويلية في مصر)، وهناك شهر الفاتح (سبتمبر)، وفيها تم ذلك ''الفتح'' الكبير الذي ما زال متواصلا إلى الآن، إضافة إلى أي النار وهو أول شهور السنة (جانفي)، وهناك شهر الربيع (أفريل)، وهانيبال (أوت)، وهو بالمناسبة اسم أحد أبناء القذافي الذي أثار سابقا أزمة مع سويسرا عندما اعتقل لمدة يومين ثم أعيد إطلاق سراحه· ومع انحسار ظاهرة الانقلابات العسكرية في المنطقة، بدأ العقيد في السنين الأخيرة يطمئن أكثر على عرشه، وبدأ التفكير جديا في توريث عرشه لنجله سيف الإسلام ضمن ما سميت بالجمهوريات الملكية، على غرار ما حدث في سوريا وما كان يخطط له حسني مبارك في مصر وعلي عبد الله صالح في اليمن، لكن لعنة المواطن التونسي محمد البوعزيزي التي أتت على بن علي في تونس ثم على مبارك في مصر يبدو أنها تقترب أكثر فأكثر من الزعيم الذي بدا أنه في خريفه، فهل تمر عليه لعنة البوعزيزي بسلام؟