يقاتل العرب، هذه الأيام، بشجاعة وشرف على أسوار مدنهم، ويقتلهم حكامهم بقسوة وإصرار كما لم يقتلوا أعداءهم. إنني أشاهد بحزن جنائز أبناء اليمن وليبيا وسوريا، كما شاهدت من قبل جنائز أبناء تونس ومصر... شعوب تتعرض من أجل حريتها للرصاص الحي والقنابل المسيلة للأرواح.. يموت أبناؤها من أجل خلاصها من الذل والديكتاتورية والفساد المستشري في السياسة والمال والحقوق والأنفس. المشهد العربي العام في ظاهره مأساوي، لكنه في الباطن عظيم وتاريخي. لقد أنهت هذه الثورات عصورا من القهر، وقصرت أعمار أنظمة ردعية متخلفة أغلقت على شعوبها كل أبواب وأسباب التطور، وجعلت منهم مجرد رعايا بلا حقوق، وحتى بلا واجبات... وتلاعبت بمصائر استثنائية كان يمكنها أن تجعل من هذه الشعوب، الساكنة في قلب العالم، مركز العالم الاقتصادي والثقافي والمعلوماتي والإنساني.. لكن الأنظمة الأنانية المستحكمة في كراسيها على حساب شعوبها، وعلى حساب حقائق التاريخ، عملت كل ما في وسعها طيلة عصور على إبقاء هذه الشعوب في القرون الوسطى، سياسة واقتصادا وتربية وعدالة وإدارة... منفردة بثروات هذه الشعوب ومصيرها. وراء هذا المشهد العظيم اختفت حقائق كانت إلى ما قبل بضعة أشهر أشبه بقدر لا مفر منه، وبرزت حقائق كبرى في مستوى تطلعات هذه الشعوب. من الحقائق التي اختفت والمهمة في اعتقادي، هي الاستحواذ على الحكم والانفراد به. فلن يجرؤ حاكم عربي بعد هذه الثورات على البقاء في السلطة حتى يركله الشعب، والدليل أن كل الدساتير المقترحة على الشعوب العربية تحدد فترة الرئاسة بما يقتضيه حق التداول على السلطة. وهذا إنجاز عظيم. الحقيقة الثانية هي أن لا حاكم بعد اليوم يعتقد أنه ينجو من العقاب، وهو معرض ككل مواطن عادي للمحاكمة والسجن والبهدلة مثلما حدث لرئيس مصر السابق الذي اقتيد على سرير المرض إلى المحكمة، واستمع للتهم المرفوعة ضده مثله مثل أي مواطن أخطأ أو أجرم... وهذا أيضا إنجاز عظيم. الحقيقة الثالثة أن فكرة التوريث التي كادت تصبح سابقة تاريخية في الجمهوريات العربية المصطنعة انتهت إلى الأبد. وهذه الخطوة بالذات خطوة عملاقة باتجاه المستقبل الديمقراطي للشعوب العربية التي رأت النموذج السيئ في التوريث السوري الذي أدى إلى كارثة يدفع ثمنها اليوم شعبه، وفكرة التوريث في اعتقادي تؤدي إلى كوارث مماثلة حتى في الممالك التقليدية التي تظن عن خطأ أن ذلك حق. طبعا هناك حقائق أخرى ستختفي بقدر تقدم هذه الشعوب على طريق الثقافة الديمقراطية، ومنها استعمال الجيوش لحماية الأنظمة، أو تعسف أجهزة الأمن في استعمال السلطة، أو البقاء تحت سلطة المخابرات، وحتى الرشوة والفساد المالي والإداري سيتم القضاء عليهما تدريجيا... الخ. لكن هناك بالمقابل حقائق برزت بقوة، ومنها حقيقة تبدو غير مفهومة بشكل جيد حتى الآن، وهي أن الإسلام الذي يساهم في قيادة هذه الثورات لم يعد الإسلام التقليدي، المتعصب، الجهادي على طريقة القاعدة. وأعتقد هنا أن الشعوب العربية أخذت درسا من الجزائر التي دمرها ذلك النوع من ادعاء الإسلام، فقتل أبناءها ودمر منشآتها بدل أن يساهم في تغييرها إيجابيا. فالإسلام كما نشاهده اليوم في الصفوف الأولى للثورات العربية، فاعلا على قدم المساواة مع القوى الأخرى، غير منفرد برأيه ولا محتقرا لجهود الفاعلين الآخرين. وقد أعطت حركة النهضة في تونس والإخوان في مصر درسا رائعا في وعيهم بدورهم الإيجابي في تغيير تاريخ بلدانهم. الحقيقة الثانية هي أن المعارضة بمفهومها القديم، أي المعارضة المصطنعة التي يصنعها النظام على مقاسه فقط من أجل معارضة بلا برنامج ولا بديل، انتهت هي بدورها. فقد قامت قوى أخرى اسمها حاليا: الشارع! بدور المعارضة ونجحت في تغيير أنظمة الحكم وطرح برنامج بديل، وهي دون شك لن تتخلى عن مهمتها في المستقبل، بل ستزداد انتشارا بين الناس، وتنظيما لنفسها لحماية مكتسباتها. ثالثا: كسر الناس لجدار الخوف من الأجهزة القمعية، وانتشار ثقافة الحرية والديمقراطية بين الطبقات الشعبية، ما يؤهلها إلى لعب دور إيجابي في حركية المجتمع مستقبلا، أي التخلص من معيشة الذل، وإثبات وجودها الفاعل والعملي في الواقع، وهذا أهم إنجاز يمكن الاعتداد به في هذه الثورات المباركة. هذه بعض الحقائق التي حققتها هذه الثورات التي دفعت ثمنا غاليا، كان علينا الإشارة إليها لأنها ستكون بالنسبة للأجيال القادمة حدثا تاريخيا لا تستفيد من فضائله سوى الشعوب المستكينة لحكامها.