يتذكر الآباء والأجداد كيف أن المعلم عندما كان يدخل القسم في العقود الماضية، يسود الصمت فلا تسمع دبيب النملة.. وكل التلاميذ كانوا يقفون له إجلالا وتقديرا... يهابونه ويحترمونه ويقدرونه حق تقديره... أما اليوم فقد انعكست الصورة تماما، حيث أصبح المدرّس يخاف أن يستثير غضب أحد التلاميذ حتى لا يكون ضحية اعتداء جسدي.. يشتري ود التلاميذ سعيا وراء استقطاب أكبر عدد منهم للدروس الخصوصية.. فيتقرب إليهم ويطلب ودهم ورضاهم عنه. من المذنب في هذا التردي الشديد؟ المدرس المعدم، والذي إذا اعتمد على راتبه لن يجد لقمة العيش لإطعام عائلته؟ أم هم أولياء الأمور الذين شجعوا أبناءهم على التطاول دون ردع أو توجيه؟ أم كل ما سبق ذكره مجتمِعا؟ أجره يتراوح بين 18 ألف و40 ألف دينار مدرّس بدرجة مثقف ''متسوّل'' حمّلت نقابات التربية الحكومة بوجه عام، والوزارة بوجه خاص، الوضع الذي آل إليه 370 ألف مدرس بالأطوار الثلاثة، بانتهاجها سياسة مخالفة لقوانين الدولة التي تعطي المكانة التي يستحقها المعلم، بتهميشها لهذه الفئة، ليصبح أجرها اليوم في أدنى المراتب مقارنة بقطاعات كثيرة في الوظيف العمومي. وحسب ما ذكره المنسق الوطني للمجلس الوطني المستقل لأساتذة التعليم الثانوي والتقني، نوار العربي، فإن المتمدرسين استيقظوا مؤخرا على '' صدمة'' النظام التعويضي، الذي يعد الأدنى بالمقارنة مع القطاعات الأخرى. وهنا عاد منسق ''كناباست'' إلى القانون التوجيهي في التربية، الصادر في 2008، الذي نص في مادته الثامنة على أن التعليم استثمار منتج. كما نص في مادته 80 على أنه يجب أن تبذل قصارى الجهود حتى تكون هذه الفئة في وضعية اجتماعية مريحة، وهو ما لم تلتزم به الحكومة، فالمعلم بالإضافة إلى أجره المتدني الذي حرمه من عدة كماليات أصبح اليوم يتنقل إلى المدرسة وهو شارد الذهن، في كيفية تلبية كل متطلبات أسرته عوض الاهتمام بما سيقدمه للتلاميذ، بالإضافة إلى أن الوصاية لم توفر الظروف اللازمة بعد لراحة المعلم، حيث يقوم بتدريس 40 تلميذا، خاصة في المناطق النائية، وفي قسم واحد. في الوقت الذي ألغت دوره في عدة أمور، منها ما كان يقوم به مثلا في المجلس الذي كان يوجه من خلاله الأستاذ التلاميذ إلى الشعب المناسبة، وحتى إلى التكوين المناسب عند توقيفهم عن الدراسة، متأسفا على سياسة الحكومات المتتالية، التي استثمرت في الاقتصاد وأهملت المعلم، الذي يعد أهم استثمار للإنسان، معلقا على الوضع ''كيف يكون مصيرنا هكذا ونحن من ننتج رؤساءنا ووزراءنا وأطباءنا و....''. في المقابل تكلم رئيس الاتحاد الوطني لعمال التربية والتكوين، صادق دزيري، بنفس النبرة، معتبرا أجور المعلمين مجحفة، تتراوح بين 18 ألف و40 ألف دينار، مستدلا على الدراسة التي قام بها الاتحاد، مؤخرا، بمقارنة النظام التعويضي لعمال التربية مع 10 قطاعات في الوظيف العمومي، تبين فيها أن المنح والتعويضات لقطاع التربية تم حسابها على أساس الراتب الأساسي، في حين القطاعات الأخرى تمت على أساس الراتب الرئيسي، أي الأجر الأساسي زائد الخبرة المهنية، وبذلك لم تتجاوز الزيادة في قطاع التربية 28 بالمئة، ما حوله إلى ''متسول أنيق''، بالإضافة إلى غياب الحصانة القانونية حيث أصبح المعلم يعيش حالة من الإحباط أثرت على صحته، وأدخلته عالم الجنون بسبب تراكم الضغوطات. شاهد من أهلها الأستاذ مجاهدي محمد يروي مسيرة 37 سنة ''لا كرامة بعد التقاعد'' قال الأستاذ مجاهدي محمد، الذي قضى 37 سنة في قطاع التربية والتعليم، إن فترة التقاعد بالنسبة للمعلمين ''تعد جحيما حقيقيا، كون المنحة التي يتقاضاها لا تتعدى 20 ألف دينار''. وقد بدأ مجاهدي محمد مسيرته كأستاذ لمادة العلوم الطبيعية بمعسكر، ثم مستشارا للتربية بالمعهد التكنولوجي للتربية، وختمها كمدير لمتوسطة تيزي، التي حصدت المراتب الأولى في ميدان نسبة النجاح، خلال السنوات الفارطة. السيد مجاهدي الذي التقته ''الخبر''، أكد بأن وضعية متقاعد قطاع التربية في الجزائر جد كارثية، وهي آخذة في التدهور والانحطاط، طالما أن منحة تقاعده لا تكفيه سوى لأيام فقط، فهي لا تسد رمق عيشه، خاصة بالنسبة للذين تقاعدوا قبل سنة 2008، أي منذ إقرار الزيادة في أجور ومنح الموظفين بالقطاع. مضيفا بأنه لا يتقاضى سوى 20 ألف دينار، وكثيرون هم أمثاله الذين عانوا سابقا كموظفين، وهم اليوم تحت رحمة الفقر والحاجة، وهي منحة لا تكفيه حتى لشراء هندام لائق كمتقاعد من قطاع محترم، مرجعا أسباب ذلك لتجاهل السلطات العمومية لحالتهم ووضعيتهم الاجتماعية، بعدما أفنوا حياتهم خدمة لقطاعهم. وقال الأستاذ مجاهدي ''إن المتقاعد من قطاع التربية، عندنا في الجزائر، يعاني من أمراض عدة، خاصة المزمنة منها''، وهي أمراض مترتبة عن التعب الذي نال منه خلال سنوات العمل والجهد المبذول من قبله. حيث قال، بصريح العبارة، ''كرامة المربي تسقط بعد تقاعده''. مضيفا بأن بعض المتقاعدين يتقاضون عشرة آلاف دينار أو أقل، بعدما تلجأ لجنة الخدمات الاجتماعية إلى اقتطاع مبالغ مالية خاصة بسلفة السكن أو السيارة أو التجهيزات المنزلية. ويكون المشكل أضخم عندما يلزم الأستاذ أو المدير سكنا وظيفيا طيلة حياته المهنية، ثم يجد نفسه مطرودا بالقوة العمومية، بموجب قرار إخلاء السكن. وفي الأخير طالب مجاهدي محمد المسؤولين على القطاع بضرورة إيجاد منح وعلاوات أخرى، كالنقل والإيواء، وتوفير سكن وظيفي ليتفادى التنقل، ومنحه منحة المنطقة النائية ''إن أردنا الحديث فعلا عن الإصلاحات في مجال التربية والتعليم''. بورتري رئيس فدرالية جمعيات أولياء التلاميذ أحمد خالد ل''الخبر'' '' المجتمع ككل يتحّمل مسؤولية إهانة المعلمين'' بما أنك قضيت 27 سنة في التعليم، ما ذا تقول عن مراحل التعليم منذ الاستقلال؟ - أنا باشرت التعليم في سنة 1962، وتوقفت عنه في سنة 2000، وشهدت عدة تغيرات، انطلاقا من الظروف التي كان يعمل فيها المعلم، حيث كان لا يحوز إلا على المنهاج، ويجتهد لتحضير الدروس في غياب الكتب، كما أن المعلم حينها كان يواجه مشكل التكوين، الذي كان يشرف عليه عراقيون ومصريون وحتى فرنسيون، وكانت اللهجات عائقا كبيرا للفهم، إلى أن آل المدرس اليوم إلى وضع مؤسف، رغم أن الإمكانيات الآن أحسن. نقابات التربية تحمل السلطات المسؤولية ما رأيك؟ - هناك عدة أطراف تتحمل المسؤولية، بما فيها الأستاذ نفسه، الذي لم يعد في نفس الهيبة التي كان عليها في السابق، حيث كان مصدر خوف واحترام في نفس الوقت، انطلاقا من الهندام إلى طريقة التصرف وإلقاء الدروس. فهناك معلمون اليوم لا يستحقون العمل في هذه المهمة النبيلة، وكان على الوزارة أن توسع دائرة الاختيار بعدم الاكتفاء بالشهادة والمسابقة، وإنما مراعاة الجانب الأخلاقي لهذا الأخير، لأنه يقوم بتكوين أجيال، بالإضافة إلى أن الأولياء يتحملون 50 بالمئة من المسؤولية. كيف ذلك؟ - قديما كان المعلم قدوة لا يجرؤ تلميذه، حتى وإن أصبح رجلا وله عائلة، على التدخين أمامه، وكان دائم المدح له أمام أفراد أسرته، إلا أنه حاليا يقوم بسب وشتم أستاذه، والاستهزاء به أمام الأولياء، دون أن يجد ردعا من قبل هؤلاء، وهو ما يفقده احترامه ومكانته كقدوة. أسطورة ''مربي الأجيال'' تلاشت 400 معلم ضحية اعتداء جسدي سنويا طالب عدد من المعلمين والأساتذة بضرورة الاستعجال بتأسيس المرصد الوطني للعنف في المؤسسات التربوية، خصوصا مع تزايد حالات الاعتداءات بين التلاميذ، وبين التلاميذ والأساتذة، حيث يسجل سنويا ما يعادل 400 حالة عنف جسدي ولفظي. ويؤكد مصدر مطلع من وزارة التربية الوطنية، بأن حالات العنف في المدارس أصبحت تؤرق المعلمين والأساتذة، كما أن عملية تفتيش بعض التلاميذ تطبّق، بالنظر إلى أنهم أصبحوا يشكلون خطرا، ويحملون الأسلحة البيضاء معهم داخل المحافظ. ويتعرض سنويا حوالي 400 أستاذ، أغلبهم من العنصر النسوي، للعنف الجسدي واللفظي، إما داخل الأقسام أو خارج المدارس والثانويات. ويصل الحد إلى الاعتداء الجسدي والضرب بالأسلحة البيضاء، وهو ما جعل الأساتذة يعانون من حالة ذعر وخوف، ولو أنهم هم أنفسهم يمارسون بعض العنف اللفظي والجسدي أيضا على التلاميذ. وعلى الرغم من المطالب المتكررة لإنشاء مرصد وطني للعنف في قطاع التربية، من أجل التوعية ودراسة الوضعية، والقضاء على العنف في الوسط المدرسي، إلا أنه لا يزال مجرد حبر على ورق، في الوقت الذي يزيد فيه سنويا عدد التلاميذ، ليصل مع هذا الدخول إلى أزيد من 8 ملايين تلميذ. وبحسب الدراسات التي أنجزها مختصون في علم الاجتماع وعلم النفس، فإن أغلب حالات العنف تقع في الجزائر العاصمة ووهران وعنابة وقسنطينة، كما أنها تنتشر في المدارس التي توجد في المدن. الدولة لا تعترف إلا بمرض واحد يصيب المدرّسين شدد صادق دزيري على أنه رغم الأمراض المختلفة التي تتربص بالمدرسين حاليا، خاصة في السنوات الأخيرة، إلا أنه لا يُعترف إلا بمرض الأحبال الصوتية الناتج عن كثرة الكلام والصراخ. وأضاف رئيس الاتحاد الوطني لعمال التربية والتكوين أن الضغوط المستمرة على هذه الفئة يعرضها إلى أمراض مختلفة، مثل القصور الكلوي، والدوالي، والقلب، والضغط الدموي، والسكري الذي تزايد، حسبه، بشكل ملفت للانتباه، وهي أمراض غير معترف بها لتعويض صاحبها بنسبة مئة بالمئة، مثل التعويض على مرض الحبال الصوتية، يضاف لها الأمراض العصبية المتزايدة. وفي ذات السياق، قال منسق الكناباست إنهم طالبوا في أكثر من مناسبة بمنح مناصب مكيفة لبعض الحالات التي لم يعد بوسعها مواصلة التعليم، بدمجها في مناصب إدارية مثلا، وأبدت الوزارة موافقتها، إلا أنها لم تقم بهذا الإجراء لحد الآن.