الإصلاحات السياسية مجرد حركة طفيلية تأتي لحلول ظرفية كان الحديث مع مضيفنا، الوزير والسفير الأسبق كمال بوشامة، شيّقا للغاية. فرغم مرور ثلاث ساعات كاملة على تواجدنا ببيته الكائن بأعالي العاصمة، إلا أن ذلك لم يشعرنا لحظة واحدة بالملل أو الرتابة، خاصة بعد أن امتزجت نظرته الثاقبة للقضايا الراهنة بروح التنكيت والدعابة. حاولنا في البداية وضع خطة نُدير بها حديثنا، حتى لا نقتطع الكثير من وقت مضيفنا، بحكم ارتباطاته العديدة والتزاماته المتعددة، لنجد أنفسنا في الأخير أمام رجل له من الخبرة والتجربة ما يُغنينا عن تحديد معالم نقاشنا، رغم اعترافه ب''الثرثرة'' ما بين الفينة والأخرى. اكتسبت النضال السياسي من والدي فضّل كمال بوشامة، وزير الشباب والرياضة وسفير الجزائر بدمشق سابقًا، الحديث عن حياته الشخصية في عجالة، حتى يتسنى له تقديم ملاحظاته حيال مسائل أخرى، تتعلق عموما بما آلت إليه الجزائر والأمة العربية في الآونة الأخيرة، قائلا: ''أنا من مواليد 3 سبتمبر 1943 بمدينة شرشال الساحلية، نشأت في عائلة جد متواضعة، تتكوّن من والديّ، رحمهما الله، وخمسة إخوة (3 ذكور و2 إناث)، جلهم الآن إطارات في الدولة. وقد ترعرعت في الجزائر العاصمة، وأنا اليوم متزوج وأب لثلاثة أبناء (ذكران وأنثى)''. مضيفا: ''كان والدي، الحسين بوشامة، موظفا بسيطا بالبلدية (فرع الحالة المدنية)، وناشطا سياسيا بالحركة الوطنية لحزب الشعب، وكان وقتها من أوائل المسؤولين بالكشافة الإسلامية الجزائرية، ما جعل القوات الفرنسية تزجّ به في السجن عقب ولادتي ببضعة أيام، فكبرت في جوّ مليء بالحماس والنضال''. وتابع بوشامة: ''كانت دراستي مفعمة بالتحدي، لأنني راهنت على النجاح والتعرّف على الحياة إلى أقصى حد ممكن. لذا، تفوّقت في الطور الابتدائي ثم الثانوي، وقد دخلت الحرم الجامعي بنوع من الثقة في النفس، لأنني كنت أحمل في مخيّلتي تلك الأبعاد الخصبة التي ينبغي أن تحتكم إليها بلادنا، فسعيت على هذا المنوال وكلّي أمل بمستقبل أفضل من ماضينا''. السياسة لِمَن يعرفها لا تسمح له بالمغادرة استسمحنا مضيفنا لدقائق معدودة، كانت كافية لإحضار إبريق شاي وطبق حلوى، دعانا إلى ارتشاف كوب منه وتناول قطع منها بمكتبته الباروكية الأنيقة، فكان له ذلك. غادرنا المضافة التي تتقاطع تفاصيلها مع أفخم المتاحف الأوروبية، جرّاء الكم الهائل من الشهادات التقديرية والأوسمة الشرفية، وكذا اللوحات الزيتية والتحف الأثرية التي تزيّنت بها جدرانها وأرضيتها، باتجاه المكتبة التي يُحيلك ما تحمله رفوفها وأدراجها على مختلف الأزمنة والأمكنة، حيث استأنفنا دردشتنا التي ارتكزت هذه المرة على أبرز المناصب التي تقلّدها، والتي يعتبرها كمال بوشامة بمثابة مرحلة تأقلم مع وضع جديد، يقابله بكل طموحاته واحتياجاته، وكذا أبعاده وتحدياته، معقّبا: ''كنت شابا يافعا، وقبلت خوض غمار المعترك السياسي طواعية. تمرّست في النضال، فتقدمت وتأخرت، دونما ملل''. وتابع موضحا: ''بعد أن التحقت بجامعة القاهرة، تخصص آداب وعلوم إنسانية، وقبلها بالمعهد العالي للبريد والمواصلات التابع لجامعة الدول العربية في مصر، عُدت إلى الجزائر وأتممت تعليمي العالي في غضون سنتين''، مردفا: ''رغم صغر سني إبّان الثورة التحريرية، غير أنني شاركت في الفرع الجامعي لجبهة التحرير الوطني، وتحديدًا في تنشيط الخلايا وجمع المعلومات وإرسالها إلى الفدائيين، فضلا عن تنظيم الملتقيات السرية، وذلك بدءًا من .''1960 وأما من 1962 إلى 1979 يقول بوشامة: ''فقد واصلت نشاطي النضالي، سواء بمركز المحافظ الوطني لحزب جبهة التحرير الوطني، أو الجهاز المركزي والأمانة الدائمة للجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، قبل أن أتسلّم حقيبة وزارة الشباب والرياضة من 1984 إلى 1987، وأُعيّن سفير الجزائر بدمشق سنة 2000، وبعدها محافظ تظاهرة ''الجزائر عاصمة الثقافة العربية'' ما بين 2006 و2007، حيث رميت المنشفة لأن لا أحد أصغى لِمَا كنت أنادي إليه في مصلحة الثقافة''. وبشأن المرحلة الثالثة من حياته، فهي الأجمل بالنسبة لمضيفنا، كونها ''مرحلة طويلة تمتدّ إلى يومنا هذا. إنها محطة حياة سياسية لا تنتهي إلاّ بقضاء القدر. كما أنها تتماشى مع المرحلة الرابعة، فقد قلت آنفًا إن السياسة لِمَن يعرفها لا تسمح له بالمغادرة''. وعليه، يضيف بوشامة: ''فالمرحلة الرابعة هي مرحلة التقاعد والكتابة، أي الإنجاب الثقافي، وهي تلازم السياسة التي لم أنقطع عنها، لأنني أمارسها بكتاباتي التي أنشرها ومواقفي التي أُبديها، دونما خوف أو مواربة''. حرام أن نعيش بأنظمة ما قبل المدنية استوقفنا مضيفنا هنيهة كي يُرينا بعض الصور الفوتوغرافية التي جمعته مع كبار الشخصيات السياسية والرياضية والثقافية، الجزائرية منها والعربية، وحتى الأجنبية، وهو يستحضر ذكرياته وإيّاها بكثير من النوستالجيا. ليُبدي بعدها رأيه فيما لحق بالأمة العربية إجمالاً، والجزائر خصوصًا، من أحداث يقول عنها: ''رغم سياسة النسيان التي أعيشها الآن، كبقية إخواني الذين هبّت عليهم رياح البيروقراطية، إلا أن هذا لا يمنعني من متابعة الأحداث القائمة في بلدي، وفي قلب الأمة العربية''، معلّلا: ''وضعية الأمة العربية اليوم صعبة للغاية، فهي تعاني شرّ ما تعانيه، بسبب السلوكات اللاأخلاقية التي تمارس ضدها، الأمر الذي جعل شعوبها تنتفض في وجه حكّامها، وتطالب بإسقاط أنظمتها الفاسدة التي ترجع إلى ما قبل المدنية''. وموازاة مع هذه المعطيات، بل هذه الأوضاع الكارثية، يؤكد بوشامة بنبرة حادة جاء السخط، فخرجت الجماهير وما تزال، لتشجب أفكارا بالية وتندّد بسياسات عقيمة، واضعة نصب أعينها تلك النهضة الكبرى التي ستبدأ لا محالة بالتداول على السلطة وسط أجواء الديمقراطية الحقة. أو بعبارة أخرى، يردف مضيفنا: ''لقد خرج الشباب العربي في أكثر من قطر، لمجابهة قيادات مستبدة وغير مؤهلة لتسيير شؤون شعوبها، بالطريقة التي تُسيّر وفقها شؤون العالم المتمدن''. وتابع بوشامة: ''وضع الأمة العربية خطير فعلاً، تزيده أزمة أخرى هي فقدان الثقة، فالشباب الحالي لا يؤمن بما يُتخذ من قرارات، يُقال إنها لصالحه، لأنه ينظر إلى مسؤوليه بعين الاحتقار، بعد أن خيّبوا آماله على أكثر من صعيد''. ومن هذا المنطلق، يضيف محدثنا، أضحت التغييرات التي طرأت على بعض الأنظمة العربية، كتونس ومصر وليبيا والبقية تأتي طبعًا في سياق هذه العدوى بمثابة الثورات الكبرى التي تتغنى بها الجماهير وتفتخر بها وتتخذها أنماط حياة جديدة، تزيل بها كوابيس الذل والقهر والغطرسة. وعن سؤال حول ما إذا كانت هذه الثورات ثورات فعلاً أم لا؟ يردّ الوزير والسفير الأسبق كمال بوشامة: ''في اعتقادي، هي ثورات، لأنها تترجم إرادة الشعوب العربية في تغيير ما أصبح تغييره وضعية ملحّة''، مسترسلا: ''ولكن، ما الذي يقلقنا في المسميات؟ ثورات أم انتفاضات أم تحركات أم تمردات أم أشياء أخرى؟ المهم أن حكّاما سقطوا بفضل خروج الجماهير، هؤلاء الحكّام الذين تمرّسوا في الظلم واختلاس أموال الشعب، فسقطوا وسقطت معهم أنظمتهم، فمنهم من هرب كزين العابدين بن علي، ومنهم من سُجن كحسني مبارك، ومنهم من قُتل كمعمر القذافي، ومنهم من لا يزال مصيره مجهولا. لذا، أقول: ارحلوا يا حكّامنا.. كفاكم نهبا وكفانا شرا''. قوة إسرائيل وأمريكا وأوروبا في ضعف العرب غير بعيد عن الثورات العربية، أو ما يسمى ''الربيع العربي''، يرى مضيفنا أن هناك تدخلات وتحرشات أجنبية ترمي إلى السيطرة على الوضع، وبالتالي خلق أشكال ملتوية لشبه استعمار جديد بالمنطقة. فيتساءل: ''ولكن، أين المفرّ من وضع بائس كوضع العرب اليوم؟''. ثم يجيب: ''نحن نطبّق سياسة جحا في جميع أزماتنا، بمعنى إذا كانت بالمشرق لا تهمنا بالمغرب، والعكس صحيح. وقد أظهرنا ذلك نحن الجزائريون خلال بوادر الأزمة الليبية، شاهرين مبدأ: لن نتدخل في الشؤون الداخلية لغيرنا. إلى أن بات ''السيد'' نيكولا ساركوزي يصول ويجول بأراضينا، ويتخذ قرارات لم نجرؤ نحن على اتخاذها في وقتها''. وكيف لا تتدخل فرنسا وأمريكا وغيرهما، يواصل مضيفنا، بعد أن باتت جامعتنا العربية مجرد صندوق رنان، وبعد أن استقال قادتنا منذ زمان.. كيف لا تتدخل هذه الدول الأجنبية وتحشر أنفها في شؤوننا الداخلية، ونحن صامتون متخاذلون، لا نتشاور ولا نلتقي قط لتباحث قضايانا المصيرية، مستطردا: ''الطبيعة تنبذ الفراغ، وهذا من حقها، ومن حق ساركوزي أن ''يتبوّل'' على العرب، فهو على الأقل يناضل من أجل هدف.. يناضل لتطبيق برنامج سُطّر منذ أمد لإضعاف الأمة العربية.. يناضل من أجل البقاء في عالم يفرض الجبروت والقوة.. أما نحن، فنناضل من أجل ماذا؟''. لهذا، أقول وأسلّم جدلاً، يوضح بوشامة، بأنه ثمة تدخلات وتحرشات أجنبية في غاية الخطورة. فهل الحكّام العرب حاضرون لمواجهتها؟ طبعًا لا.. إنهم غائبون ومتخاملون.. إن قادتنا لا تستأسد إلاّ على شعوبها، فتتلاعب بمصيرها باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان. انتفاضة الشارع الجزائري واردة صمت مضيفنا برهة، قبل أن يتساءل مجددًا: ''والجزائر في كل هذا المخاض العربي.. أين هي؟''. ثم يجيب: ''بداية، أقول إن الجزائر لا تخرج عن نطاق هذا المحيط العربي الذي هو في ديمومة من الصراعات والفضائح، إذ لا حاجة لتغطية الشمس بالغربال، فوضعنا الراهن شبيه بوضع كل بلد عربي مؤهل للانفجار''، مسترسلا: ''نحن جالسون على فوهة بركان، وقادتنا تلتزم الصمت، وإن تفوّهت، تقول إننا لا نشبه الآخرين، بمعنى أننا قطعة فريدة من نوعها! يا له من تفكير! إنه استهتار بمصير الجزائريين، وتلاعب على الحبل في ظروف نحن أحوج إلى الائتلاف ولمّ الشمل''. وما الإجراءات التي تُتخذ هنا وهناك، أو ما يسمى ''الإصلاحات السياسية''، يقول بوشامة: ''فهي مجرد حركة طفيلية تأتي لحلول ظرفية، لن ترقى إلى مستوى طموحات وتطلعات الشعب الذي صار يطالب تبعًا لما يفرضه العالم المتمدن بتغيير جذري، يقضي على الفساد الذي ضربت الجزائر أطنابها فيه''. وعلى حديث التغيير، ودّعنا الوزير والسفير الأسبق كمال بوشامة، الذي نبّه السلطة الحالية لخطورة الوضع، مناشدا إيّاها بأخذ مسؤوليتها التاريخية قبل فوات الأوان، وتبنّي كل ما تستوجبه هذه المرحلة من إجراءات ناجعة وتدابير صائبة، تسمح للجزائر بخطو خطوات نحو الفرج، خاصة ونحن على أبواب الذكرى الخمسين لاسترجاع سيادتنا الوطنية.