حذار من ''دارفور جزائرية'' وددنا قلب صفحات التاريخ، والتجوال بين أزقته المتشعبة والضيقة، علنا نستشف خباياه بقدر إدراكنا لعوالمه. ونحن نحتفي اليوم بالذكرى 49 لعيد النصر، ارتأينا الاقتراب من إحدى الشخصيات التاريخية التي عرفت بمعارضتها الشديدة لجيش الحدود، فكان المستقر عند أحد أبطال الولاية التاريخية الرابعة سي لخضر بورفعة، الذي تحسر لاغتيال فرحة الحرية والاستقلال والنصر، بنزوات البعض وحبهم للمنصب. سمعنا عن الرائد سي لخضر بورفعة الكثير عن مواقفه الشجاعة إبان الثورة وبعد الاستقلال، ووجدنا في مذكراته ''شاهد على اغتيال تاريخ الثورة'' العديد من التصريحات النارية التي أماطت اللثام عن خبايا أحداث الثورة التحريرية وما بعدها. ومع اقتراب إحياء الذكرى 49 لمفاوضات إيفيان وعيد النصر، أردنا لقاء الرجل عله يلقي الضوء على بعض خفايا الثورة التحريرية التي من شأنها إنارة درب شباب اليوم، وهو الذي عايش حيثياتها في فترة شبابه. من قال إن الثورة التحريرية قامت كرجل واحد فهو كاذب اتصلنا الخميس الماضي بالرائد لخضر بورفعة كما يسميه رفقاء السلاح، وطلبنا لقاءه، فلم يتأخر في ضرب موعد لنا، على أن يكون في اليوم الموالي، على الساعة العاشرة والنصف صباحا، وهو ما كان، لعلمنا المسبق بانضباطه الكبير، وحرصه على دقة المواعيد. وجدنا عمي لخضر بانتظارنا بباحة بيته الكائن بحي بارادو بالجزائر العاصمة، أطل علينا ببذلته الرمادية، رحب بنا، وساقنا إلى قاعة الضيوف.. لم أجد نفسي إلا وأنا أحاول عبثا قراءة تقاسيم وجهه التي تخفي ألف قصة وقصة، وهو الذي دنا سنه من عتبة الثمانين، إلا أنه لا زال يافعا، يطبعه عنفوان الشباب، ويحتفظ بذاكرة قوية وقدرة كبيرة على تذكر الأشياء وسردها بأدق تفاصيلها. اخترنا مجلسا مريحا على أريكة جلدية بنية اللون قبالة سي لخضر، وأعلمناه أن غرضنا من الزيارة هو الحديث عن تلك الجوانب المخفية من تاريخ الثورة وما بعدها، في خضم التصريحات المتضاربة حول حقائقها. لم يلبث سي لخضر أن استرسل في سرد تلك الأيام التي عايشها قبيل اندلاع الثورة في طفولته، لينتقل إلى مرحلة الثورة، وما بعدها، مشيرا إلى أن الشعب الجزائري آنذاك كان يعيش ظروفا قاسية جدا، وأن الفترة النضالية كان لها الأثر الكبير على حياته، فقال: ''تأثرت كثيرا بالحياة النضالية مذ نعومة أظفاري، تعلمنا آنذاك كيف يكون النضال، وكنا صغارا لا نفقه ولا نفهم شيئا، إلا كلمة نضال، إلى أن انبعثت ريح ثورات العالم والتحرر، وكنت شابا آنذاك.. أتذكر عندما كانت تصلنا مجلات تحمل صور الزعماء العرب ولا يدعنا آباؤنا نلمسها، إلا بعد التأكد من أننا طهور. أتت بعدها مرحلة بداية الثورة، ولكن.. لم تكن هناك قيادة واضحة، منذ اندلاعها إلى غاية 1956 ولا ركائز نظام على الأرض، لا أوامر ولا مقررات، منذ أن أطلقتها مجموعة من الشباب المخلصين، كنا نهيم في الطبيعة على وجهنا، وكانت مرحلة صعبة جدا. والغريب في الأمر وقتذاك هو ظهور حركات مناوئة للثورة، تضم أشخاصا لهم ماض سياسي وكانوا مسلحين''. تغيّرت ملامح الرجل فجأة، انتفخت أوداجه، واحمرّ وجهه، جمع شتات كلماته، وواصل حديثه بنبرة حملت الكثير من الأسى: ''من قال أو يقول إن الثورة التحريرية قامت كرجل واحد، فهو كاذب، والقول بأن اندلاعها شارك فيه الصغير والكبير، والرجل والمرأة، لغو لا أساس له من الصحة، هي كذبة تاريخية كبرى في مسار الشعب الجزائري، واستخفاف بالأجيال المتعاقبة. لا.. ولا.. ولا.. التاريخ لا يمكن توظيفه لأغراض خاصة، ولا يمكن استغلاله لخدمة السياسة. وعندما يكون هذا هو الحال، فالأمر يعني أننا نسرق أثناء الحرب. يجب على الأجيال الشابة، اليوم، معرفة وإدراك الحقيقة كاملة، بعيدا عن الأكاذيب. الثورة لم تقم كرجل واحد، ولكن في نفس الوقت، هذا لا يعني أن شعبنا كان يحب فرنسا، إلا أن الظروف القاسية وانتشار الفقر والجهل والأمية كان سببا في عدم قيامها بالصورة التي توصف بها، بل وحتى الذي كان يحمل السلاح إلى جانب العدو، لم يكن يحب فرنسا، ولكنها حقيقة الثورة، شئنا ذلك أم أبينا''. كنا نرد على العدو بأخلاقيات الواجب أدركت وأنا أتجاذب أطراف الحديث مع عمي لخضر، ونحن نرتشف فنجان الشاي، أنه يتمتع بقدر كبير من الرصانة والحكمة، فحتى ثورة غضبه كان فيها تحكم كبير في الأعصاب، وعرفت أنه من النوع الذي لا تتسرّب إليه نزعات الشيطان بسهولة. سكت الرجل هنيهة، وكأني به يحاول البحث في دهاليز ذاكرته عن شيء في الزمن الماضي، وبهدوء لا متناه قال: ''كنا دوما نعرف أن العدو كان أقوى منا، وأننا ضعاف مقارنة به. ولكن في صغرنا، تعلمنا بالفطرة والبديهة أن الشهيد شيء مقدس، وأنه عند العدو قتيل. العدو كان يحاربنا بقوة القانون، وأخلاقيات القانون، أما نحن، فكنا نرد عليه بأخلاقيات الواجب. لم نكن نملك سوى عبارة ''الاستشهاد أو الاستقلال''، وكنا نحاول قدر الإمكان تفادي الأخطاء التي تضر بثورتنا، يكفيك الحال أننا كنا نبجل الأسير عن أنفسنا. فلو تقاسم 4 جنود علبة سردين، أعطيناه علبة لوحده، ولو تقاسم جنديان غطاء واحدا، جعلنا له غطاء كاملا. لم نكن نفعل هذا إلا لشيء واحد، كنا نريد أن نثبت بأننا مناضلون، مدافعون عن أرضنا، ولسنا قطاع طرق، وخارجين عن القانون، ومجرمين، كما كان يسمينا المستعمر، فقوتنا كانت في أخلاقنا. لقد ذقنا مرارة الكفاح المسلح، على ثلاث جبهات، الأولى كانت كيفية إقناع الجزائري بالتجنيد والتضحية في سبيل القضية الكبرى، وكان ذلك أمرا صعبا. أما الثانية، فكانت التعامل مع الحركات المناوئة للثورة. ثم تأتي الجبهة الثالثة المتمثلة في فرنسا. وما زاد الطين بلّة كان مصالي الحاج الذي أذاقنا عذابا شديدا، فحامل خطاب الحركة الوطنية تحول إلى مناقض ومعاد لمبادئ الحركة التي عاش وضحى من أجلها، فقد أرهق الثورة أيما إرهاق. لذا، لن نسمح اليوم لأحد باستغلال وتوظيف تاريخ ثورتنا لإخفاء أو إبراز أشياء لمصالح شخصية، خاصة وأن الثورة تخبئ أشياء كثيرة لم يكشف عنها بعد''. لم يكن الرائد بورفعة يود الحديث عن تفاصيل ثورة التحرير، دون التوقف عند الانقلاب الذي وقع في الجيش الفرنسي إبان الثورة التحريرية في الجزائر، مشيرا إلى أن الجنرال ديغول عندما أتى، أراد خنق الثورة والقضاء عليها، فأحضر مشروعين معه، أحدهما سياسي اجتماعي في جيبه، والثاني عسكري في يده. اعتدل عمي لخضر في جلسته، ثم واصل: ''بدأ ديغول بالمشروع العسكري، وحدّد له زمنا، ومجموعة من الجنرالات المعروفين لتنفيذه على الأرض، على غرار ماسو، شال، صلان، جوهو، وزيلر، ووعدوه بكسر جيش التحرير. وخصوا لكل ولاية تاريخية في الجزائر برنامجا، ولكنهم لم يتمكنوا حتى من إضعاف الجيش، فانقلبوا على ديغول، وهي خيانة عظمى لم تحدث في الجيش الفرنسي منذ وقت نابليون، وجب اليوم تسليط الضوء عليها لكشف فضائح الجيش الفرنسي في الجزائر، ففرنسا فشلت فشلا ذريعا، رغم أن الحلف الأطلسي كان متحالفا معها''. فرحة النصر اغتالتها نزوات البعض وحبهم للمنصب أردنا عيش لحظات من عيد النصر، وبعدها فرحة الاستقلال مع سي لخضر، فأخبرنا بأن ما جاء في كلمة الراحل بن خدة من عبارات لا زالت عالقة في ذاكرته إلى حد الساعة، وأنه لم يتمالك نفسه بعد الإعلان عن التوصل إلى اتفاق عام بين الوفدين الجزائري والفرنسي في اتفاقيات إيفيان، وقرار وقف القتال في كافة أنحاء التراب الوطني في 19 مارس .1962 مفصحا أن دموعه سالت، كون الفرحة كانت مشوبة بالغموض، لأن الخلاص كان بداية مفتوحة على كل الاحتمالات. واصلنا الحديث مع الرائد بورفعة، وكانت في صوته نبرة تشاؤم، فليست هذه هي الجزائر التي حارب من أجلها الاستعمار الفرنسي، جزائر اندلعت مشاكلها مباشرة بعد الاستقلال. يقول مضيفنا: ''مباشرة بعد الفرحة بعيد النصر، ظهرت أطراف الصراع بين مؤيد للحكومة المؤقتة ومؤيد لبومدين وعصابته. وبلغ الصراع أشده في مؤتمر طرابلس، كون الطرفين لا تهمهما إلا السلطة والزعامة، وتبيّن بعد ذلك أن ما حدث في طرابلس كان شبه انقلاب على الحكومة المؤقتة، ففرحة الحرية والاستقلال والنصر اغتالتها نزوات البعض وحبهم للمنصب. افتتحت فترة الاستقلال بصراع مقيت ما بين ضباط الجيش وقيادته، وكانت الحكومة وقتذاك تتسم بالمهرجانية والخطب، واستعراض الغرور الذي كان يميز بن بلة، وظل بومدين يراقب ويخطط ويتحيّن فرصة الاستيلاء على مقاليد الحكم. فبومدين بحكم دراسته في القاهرة، واكب كل أحداث ثورة يوليو 1952 المصرية ضد الملك فارق، وأعاد نفس السيناريو في الجزائر. أما بن بلة مع أخطائه، فكان شخصية عاطفية مغرورة بظواهر الأشياء، غير مقتنعة بجواهرها، ظل يتصور حتى نهاية مرحلة حكمه أنه زعيم الجماهير، دون منازع''. أردنا إلقاء الضوء على تلك الفترة العصيبة التي عاشها لخضر بورفعة إبان حكم الرئيس الراحل هواري بومدين، فوجدناه يتفادى الحديث عنها، لدرجة أن إجاباته كانت مختصرة جدا، وكأنه يحاول طي صفحة ماض يحمل من المواجع ما يحمل. ومع استرسالنا في طرح الأسئلة، قال: ''قبض عليّ من قبل مخابرات بومدين، بعد انقلاب 19 جوان 1965 الذي قاده العقيد الزبيري ضده، وحكم عليّ بثلاثين سنة سجن دون وجه حق، وزجّ بي في السجن، وعذبت عذابا أليما، لدرجة أني لم أغير ملابسي لمدة ثلاثة أشهر''. صمت عمي لخضر هنيهة.. أخذ لنفسه وقتا مستقطعا من الزمن.. بدا متأثرا وهو يتذكر أيام العذاب، ثم واصل: ''أدخلت السجن ليلة الذكرى السادسة لعيد الاستقلال في 5 جويلية 1968 رفقة المجاهد الراحل سليمان عميرات وآخرين، بتهمة التحالف مع الطاهر الزبيري وكريم بلقاسم. فعرفت سجون وهران، لامبيز، تيزي وزو والحراش، إلى أن أطلق سراحي في جوان 1975 بعد عملية جراحية خطيرة''. دام لقاؤنا بالرائد ثلاث ساعات من الزمن، قادتنا للتطرق لما يحدث اليوم في الوطن العربي من ثورات شعبية، فتأسف، ووصف هذا الأخير بالممزق والمعقد لأقصى الحدود: ''اليوم ونحن في القرن الواحد والعشرين، نجد أنفسنا محاصرين بين اليأس الذي لن يدوم لأن الشعوب نهضت، ولكن الفشل آت من القيادات''. أضحت الصحراء الجزائرية ''مفرغة عمومية'' وبصوت الفخور بثورة التحرير، شدّد الرائد بورفعة على أن الثورة الوحيدة التي تحمل اسم ثورة شعبية في تاريخ الثورات المعاصرة عن حق، هي الثورة الجزائرية، مؤكدا أنها لا تشبه في أي حال من الأحوال ثورات اليوم التي أضحى للإعلام جزء كبير فيها. يقول مضيفنا: ''اليوم، نرى أن هناك إرادة صراعا، وتسونامي ضرب الوطن العربي. البداية كانت من الجزائر، بعد أن عانى الشعب ويلات العشرية الدامية، ولكن الممر المسطر في أجندة وخارطة طريق قوى الغرب، يمتد من مراكش إلى قطر والبصرة، كبرنامج مسطر ومدروس بعناية. لقد اختيرت الجزائر كنقطة بداية كونها الذات، فتونس والمغرب هما الجناحان. والغرب يدرك أنه لو بدأ من أحد الجناحين، لوضعت الجزائر كل ثقلها للمساندة. فالحركة الإسلامية في البلدين أقوى، إن لم نقل أذكى من نظيرتها بالجزائر. لذا، كانت هذه الأخيرة ولا زالت مستهدفة، شأنها في ذلك شأن الأقطار العربية الأخرى. وربما سنكتشف في وقت لاحق بأن أمريكا وضعت في خارطة طريقها ذلك الممر، حتى تضمن أن لا تكون هناك دولة عربية أكبر من إسرائيل، في فترة وزمن معيّنين. ولو توجهنا إلى مركز الأبحاث الاستراتيجية بفرنسا، وبحثنا عن ملف الجزائر لسنة 2012 لوجدنا برنامجا لتقسيمها إلى 4 جهات، لذا، أحذر من ''دارفور جزائرية''، خاصة وأن الصحراء الجزائرية اليوم أضحت ''مفرغة عمومية'' لمرتكبي الجرائم بمختلف أنواعها، وحتى الأخلاقية منها، وهي التي دفع 80 بالمائة من شهداء الثورة أرواحهم لتحريرها، وزدنا للثورة 3 سنوات من أجلها''. ودّعنا عمي لخضر بورفعة، ونحن محمّلين بزاد وفير من المعلومات التاريخية التي أغدق بها علينا ذلك الرجل الذي ذاق شتى ألوان العذاب، إلا أنه لا زال شامخا صامدا صمود الجزائر، رغم الفترة العصيبة التي تمر بها بين الفينة والأخرى.