رغم أن الغيبة من الأمور الخطيرة في الدنيا والآخرة إلا أن كثيرا من الناس لا يبالي بها، بل وتهاونوا في أمره تهاوناً عظيماً، واعتبروه فاكهة مجالسهم، فإنك لا تكاد تجلس في مجلس إلا وهذا الوباء موجود فيه، وسبب انتشاره هو عدم إدراك خطورته، وهذه النصوص الكريمة تبيّن شناعة الغيبة وخطورتها؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسول الله، حسبك من صفية أنها قصيرة، فقال: (لقد قلت كلمةً لو مُزجت بماء البحر لمزجته). وذُكر عند رسول الله رجلاً، فقالوا: لا يأكل حتى يطعم، ولا يرحل حتى يُرحّل له، فقال النبي : (اغتبتموه) فقالوا: يا رسول الله، حدثنا بما فيه، قال: (حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه). وروى أبو هريرة أن رجلاً اعترف بالزنا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يُقم عليه الحدّ حتى اعترف أربع مرات، فأقام عليه الحد، فسمع الرسول رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم يدَع نفسه حتى رُجم رَجم الكلب، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة فمرَّ بجيفة حمار شائلٍ برجله، أي قد انتفخ بطنه حتى ارتفعت رجله، فقال عليه الصلاة والسلام: (أين فلان وفلان؟) فقالا: ها نحن يا رسول الله، فقال لهما: (كُلا من جيفة هذا الحمار) فقالا: يا رسول الله، غفر الله لك، مَنْ يأكل مِن هذا؟ فقال رسول الله : (فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، فوا الذي نفسي بيده، إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها) رواه أحمد. وروى أنس قال: كانت العرب يخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما، فاستيقظا مرة ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا ليُوائم نوم بيتكم فأيقَظاه، فقالا: ائت رسول الله فقل: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدِمانك، أي يطلبان طعام الصباح، فذهب وأخبر الرسول فقال الرسول : (قدِ ائْتَدَما)، فجاء الغلام وأخبرهما، ففزعا وجاءا إلى رسول الله فقالا: يا رسول الله، بعثنا إليك نستأدمك فقلت: قد ائتدمتما، بأي شيء ائتدمنا. قال عليه الصلاة والسلام: (بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين أنيابكما)، قالا: استغفر لنا يا رسول الله، قال: (هو بل يستغفر لكما). فانظر ما هي الكلمة التي قالاها، كلمة واحدة. قالا: إن هذا ليوائم نوم بيتكم، أي إن هذا النوم يشبه نوم البيت لا نوم السفر، عاتبوه بكثرة النوم فقط فعاتبهما رسول الله عليه الصلاة والسلام لخطورة ما تساوي تلك الكلمة عند الله، لأنها تؤذي صاحبها والله تعالى لا يُحب أن يُؤذى المؤمن. إن كثيراً من الناس يُهولون أمر الربا ويستعظمون أمره وهو كذلك، لكنهم يتساهلون بما هو أعظم منه وهي الغيبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أربى الربا استطالة المسلم عرض أخيه المسلم). إن الغيبة هي أن تذكُر أخاك بما يكرهه لو بلغه ذلك، سواء ذكرته بنقص في دينه أو في بدنه أو في نسبه أو في خلقه أو في فعله أو في قوله، حتى في ثوبه ونحو ذلك، فأما البدن فكذِكر العمش والحوَل والقِصر والسواد، وجميع ما تعلم أنه يكرهه من الصفات، إلا أن يكون معروفاً بصفة من هذه الصفات ولا يُميز إلا بها وهو لا يكرهها فلا بأس بذلك، وأما النسب فكقولك أبوه هندي، أو أبوه فاسق أو زبّال أو أي شيء تعرف أنه يكرهه، أو انتقاصه في حسبه ونسبه، وأما الخُلُق فكقولك هو سيئ الخُلق، وبخيل متكبر، وشديد الغضب ومتهور متسرع وما شابه ذلك، وأما في أفعاله المتعلقة بالدين فكقولك هو كذاب، أو خائن، أو شارب خمر، أو ظالم، أو متهاون بالصلاة، أو لا يحسن الركوع والسجود، أو ليس بارًّا بوالديه، أو لا يحفظ لسانه من الكذب والشتم والسب ونحو ذلك، وأما فعله المتعلق بالدنيا فكقولك إنه قليل الأدب، متهاون بالناس ولا يحترمهم، أو يرى لنفسه الحق على الناس، أو إنه كثير الكلام، وكثير النوم في غير وقت النوم، وأما في ثوبه فكقولك إن ثوبه طويل، أو وسخ الثياب، أو رديء الملابس، وقس على ذلك باقي الأمور الأخرى. إن بعض الناس قد يغتاب شخصاً فإذا قيل له: اتق الله ولا تتكلم في أعراض المسلمين؛ أجاب بقوله: أنا مستعد أن أقول ذلك أمامه، أو أن فلاناً لا يغضب مما أقول، فما يدريه أنه لا يغضب، فلعله يُجامِل عندك ولكن في قلبه يتألم كثيراً من ذلك القول ويكرهه، إن حديثك تنساه بمجرد إطلاق الكلمة وانتهاء المجلس، ولكنه مُحصى عليك، وأنت موقوف يوم القيامة حتى يقتص منك، فيؤخذ لمن اغتبتهم من حسناتك، فإن فنيت حسناتك، أُخذ من سيئاتهم فحُطَّت عليك، وما أشدها من مصيبة أن تُفجع في ذلك اليوم العظيم بمثل هذا وأنت أحوج ما تكون للحسنة الواحدة، فكما أنك لا تقبل أن يكون عِرضك حديث المجالس فكذلك الناسُ لا يقبلون ذلك لأنفسهم، فطهر لسانك وطهر مجلسك من الغيبة، ولا تسمح لأي شخص أن يغتاب أحداً عندك في مجلسك، ولو تكلم أحد فأسكته وبيّن له حرمة ذلك، ودافع عن أعراض إخوانك المسلمين إذا اغتابهم أحد عندك، فإن في ذلك أجرًا عظيما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ردَّ عن عرض أخيه المسلم كان حقّاً على الله عز وجل أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة) رواه أحمد. وإن المغتاب لو لم يجد أُذناً صاغية لما اغتاب واسترسل في الحديث، فأنت باستماعك الحديث وعدم إنكارك عليه تكونُ مشجعاً على المعصية، وإذا لم تُنكر عليه ولم تترك المجلس لم يرتدع وينتهي عن الغيبة فإنك تكون شريكاً في الإثم. إن الغيبة أمرُها خطير والاحتراز منها صعب جدًّا إلا لمن وفقه الله وأعانه على ذلك، وجاهد نفسه في الاحتراز منها، فينبغي على المسلم أن يجاهد نفسه على تجنبها والابتعاد عنها، ولْيُحاول أيضا أن يعفو ويصفح عن كل من اغتابه وتكلم فيه، فإن في ذلك أجرا عظيما، قال الله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ َلا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: 40).