من القواعد الفقهية الكليّة المشهورة المتّفق عليها قولهم: ''الأمور بمقاصدها''، وهي متّفق عليها لإجماع الأمّة عليها واتّفاقها على اعتبارها؛ لتضافر دلائلها التي لا تعدّ ولا تحصى، وهي كليّة لدخولها في كلّ أبواب العلم وكلّ ميادين العمل. أيّ عمل يطالب به الإنسان، وأيّ عمل يقوم به إنّما يوزن، بعد تحقّق مشروعيته، بالنية الباعثة عليه، وبالغاية التي يُراد بلوغها منه، وبتحقيقه للمقصد أو المقاصد التي شرع لأجلها، وبتجسيده للحكمة أو الحِكم المتضمّن لها. وصيام رمضان كغيره من الأحكام الشّرعية له حِكم علمها مَن علمها وجهلها مَن جهلها، وله مقاصد تبيّن لنا بعضُها وغاب عنّا بعضٌ آخر، وليس المقصود هنا تتبّع هذه الحكم وشرح هذه المقاصد، بل التّنبيه على أهميتها، والتّأكيد على أنّ فوز الصّائمين مرتبط أساسًا بتمثّلهم لهذه الحكم وتحقيقهم لهذه المقاصد، فليس العبرة بعيش هذا الشّهر وشهوده وحضوره، بل العبرة أن يخرج منه الصّائم على حال أحسن من الحال الّتي بدأه وهو عليها، وإلى هذا يشير الحديث النبويّ: ''رغم أنف امرئ أدرك رمضان ولم يغفر له'' رواه الطبراني والحاكم. وفي هذا المعنى يقول الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله: ''وشهر الصّوم في الإسلام مستشفى زمانيٌّ تعالج فيه النّفوس من النّقائص التي تراكمت عليها في جميع شهور السنة''، وقال أيضًا: ''ورمضان مستشفى زمانيٌّ يجد فيه كلّ مريض دواءَ دائه؛ يستشفي به مرضى البخل بالإحسان، ومرضى البِطنة والنّعيم بالجوع والعطش، ومرضى الجوع والخصاصة بالشِبَع والكفاية''، وهذا كلامٌ حكيم صادر من إمام عليم، ذلك أنّ القصد والعبرة من دخول المستشفى هو تحقّق الشّفاء، وإلاّ كان دخوله كعدمه، وكذلك شهر الصّيام القصد والعبرة منه هو التغيّر الإيجابي الّذي يحصل في حياة الصّائمين، والإصلاح الذي يحقّقونه في مختلف جوانبها. وكما أسلفت فإنّ حِكم الصّوم كثيرة ومقاصده عديدة؛ لذلك سأكتفي بالتّنبيه على حكمتين، تتعلّق إحداهما بالعلاقة مع الخالق سبحانه، وتتعلّق الثانية بالعلاقة مع المخلوقين. أمّا الحكمة الأولى: فهي أنّ الصّيام (رمضان) يقصد، فيما يقصد إليه، إلى تربية الصّائمين على مراقبة الله عزّ وجلّ، وغرسها في نفوسهم، ذلك أنّ الصّيام سرٌّ بين العبد وربّه؛ فمن ذا يعرف بأنّ هذا الشّخص صائم أم لا إلاّ الله؟! فالصّيام عبادة تركية لا أمارات ظاهرة عليها، فبإمكان أيّ إنسان الأكل والشرب حيث لا يراه النّاس، ولا مانع له عن ذلك إلاّ إيمانه بأنّ الله يراه في كلّ أحواله، عالمٌ بجميع أعماله، سامعٌ لكلّ أقواله، عارف بنيته، مطلعٌ على سريرته. وإلاّ فما الذي يمنع المؤمنين من بارد الشراب، وهم صيام، السّاعات الطِوال في أشهر الحرّ إلاّ العبودية لله ومراقبته سبحانه؟! والقصد هو التدّرب على ذلك، ومن ثَم استصحاب هذه الحال بقية العام. وأمّا الحكمة الثانية: فهي أنّ من مقاصد الصّيام العظام تقوية الشّعور بالآخرين، وتعميق الإحساس بآلام وآمال إخواننا المستضعفين والمحرومين والمعوزين؛ لأنّه بفرضه ''الجوع إجباريًّا'' على جميع النّاس، واجدِهم وعادمهم وغنيهم وفقيرهم وناعمهم وبائسهم، يحقّق نوعًا من ''التساوي الإلزاميّ في الحرمان''، ويغرس في نفوس الواجدين الشعور بآلام الفقراء والإحساس بمعاناة المحرومين، أو بتعبير شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله: ''يذكّر بحال الأكباد الجائعة من المساكين''، وهذا الملمح هو ما يفسّر اندفاع النّاس إلى الإحسان في هذا الشّهر أكثر من غيره من الشّهور. والقصد هو التعوّد على ذلك، لئلاّ يغفل المؤمن عن إخوانه في باقي الأيّام. وهكذا الأمر مع باقي الحِكم والمقاصد، فالفوز في هذا الشّهر المبارك إنّما هو بتحقيق غاياته وتجسيد حِكمه وبلوغ مقاصده والخروج منه بمعافاةٍ من كثير من السّلبيات وبشفاءٍ من كثير من أمراض النّفس وبإصلاح كثير من النّقائص وبتوبة نصوح وطاعة دائمة. * إمام مسجد الرّحمن عين النعجة