شكّل مطلع التسعينيات، بالنسبة لجيلي، زمنا أحن إليه كثيرا، ففيه اكتشفنا أدب أمريكا اللاتينية. كان يبدو لنا هذا الأدب كفضاء غرائبي نكتشفه بسعادة، ونقبل عليه بنهم كبير. نقرأ، ونكتب ونترجم قصصا قصيرة، وحوارات لأهم الأدباء، ونُبحر بلا مراكب، وهو تعبير أجدده مرة أخرى، فقد ترسخ في ذهني بسب ديوان ''منارات'' لسان جون بيرس. كان الزمن ينحدر إلى الأسفل، فلم يكن لنا سوى الإبحار، حتى والمراكب منعدمة. فالمخيلة إن لم تتغذى بالمختلف، والغرائبي احتضرت. كان فارغاس يوسا واحدا من هؤلاء الأدباء الذين فتحوا أمامي أفقا رحبا لاكتشاف أدب مغاير. بدأت بقراءة رواية ''المدينة والكلاب''، ثم ''قصة مايتا''، وغيرها من الأعمال الأولى التي شكّلت تجربته الواقعية، ليحدث بعدها تحول في مساره الروائي، لما نشر سنة 1982 رواية ''حرب نهاية العالم''، حيث تخلى عن موطنه البيرو كفضاء روائي، وكتب عن أحداث واقعية جرت في البرازيل نهاية القرن التاسع عشر. وتصور الرواية قيام ثورة تبشيرية يقودها رجل دين في صحراء ''نورديستي''، تدعو لنظام عادل، فيسير معه كل المنبوذين والعاهرات والفقراء والخارجين عن القانون، ويسعون رفقته لإسقاط النظام الجمهوري، وإنشاء نظام عادل لا يقوم على الاقتصاد. وفي خضم تجربة سياسية فاشلة، إثر مشاركته في انتخابات الرئاسة سنة 1990، باسم تجمع ''ليبرتاد''، وهو تجمع للقوى الديمقراطية المعادية للماركسية، تحمل شعار ''التحرر الاقتصادي والسياسي''، نشر يوسا رواية ''مديح زوجة الأب'' (1988)، فصنفها النقاد في خانة الرواية الإيروسية. ثم عاد عام 2000 إلى موضوعه المفضل، وهو تجربة الديكتاتور، فنشر رواية ''حفلة التيس''، وهي رواية عن جنون ديكتاتور جمهورية الدومينيكان، تروخيو، الذي حكم مدة تفوق الثلاثين عاما، من 1930 إلى غاية .1961 قضى يوسا سنوات طويلة في جمهورية الدومينيكان، قبل الشروع في كتابة هذه الرواية ذات الشعرية المتأنقة، والتي جاءت مليئة بالصور الفظيعة عن جمهورية يتحكم فيها طاغية. وأوجد تروخيو نظاما اجتماعيا يقوم على قيم مزيفة، يستشفها القارئ من خلال ما جاء على لسانه ''في السلّم الاجتماعي، وحسب ترتيب الجدارة، يحتل العسكريون المقام الأول، فهم يؤدون الواجب، وقلما يتآمرون، ولا يضيعون الوقت. وبعدهم يأتي الفلاحون، في منشآت تكرير السكر وفي أكواخ القرى، ففي مصانع السكر تجد ناس هذه البلاد الأصحاء، الشغيلين، والشرفاء. وبعد ذلك الموظفون، فالمقاولون، فالتجار. أما المتأدبون والمثقفون فهم الأخيرون، بل إنهم وراء رجال الدين''. وقد تشعبت هذه الرواية عبر عدة مسارات، بدءا من مسار أورانيا، وهي تحكي مأساة اغتصابها المريع من قبل الديكتاتور تروخيو، ثم مسار الديكتاتور تروخيو وكيفية صعوده إلى سدة الحكم بمعية الأمريكان، وصولا إلى اغتياله من قبل جماعة من العسكر والمثقفين ورجال القصر الجمهوري، الذين أمطروه بوابل من الرصاص، ثم وقوع هؤلاء تحت سطوة رجال الاستخبارات وابن تروخيو، لتبقى السلطة في دائرة مغلقة متوحشة. بعد ''حفلة التيس''، كتب يوسا رواية تسبح في الجمال والرقة، وهي ''الفردوس على الناصية الأخرى''. وتلك تجربة جديدة في مساره الروائي، اتسمت بالانتقال إلى مواضيع تستنهض هواجس الفنان. وتعتبر ''الفردوس...'' رواية عن اليوتوبيا والجنس والفن، حيث يتناوب بين فصولها حياة كل من الرسام الشهير بول غوغان، الذي غادر باريس إلى تاهيتي سنة 1890، بحثا عن سعادة الحياة البدائية وإيقاعها الحسي، ليدرك في النهاية أنه أضاع عمره بحثا عن الفردوس. ثم يلي ذلك الفصل التالي، ومعه قصة جدته فلورا تريستان المناضلة العمالية، التي كانت ترافع من أجل الدفاع عن المرأة في مجتمع رأسمالي برجوازي خلال القرن التاسع عشر. طرح يوسا في هذه الرواية مشكلة الخيال باعتباره ضرورة حيوية للروائي، ليس فقط من أجل جماليات الرواية، وإنما لكونه يفسح المجال لنسج مصائر خيالية، تعلن رفضها للحياة الواقعية وانتقادها لها، أي رفض الكاتب لظروف الواقع، ورغبته في استبدالها عن طريق المخيلة التي تتيح له تشكيل الحياة وفق طموحاته، فيبدو التخيل تعويضاً عن بؤس الواقع، الذي بدأ الكاتب يعيشه بطريقة غير مباشرة أقرب إلى الذاتية، أي إلى حياة الأحلام والتخيلات. هذه الفكرة نجدها حاضرة بقوة في رواية لاحقة بعنوان ''شيطانات الطفلة الخبيثة'' (هذه الرواية التي تحملك في جولة عبر العالم)، حيث نقف أمام قراءة متخيلة لمسار التاريخ من زاوية الحب وعلاقة الرجل بالمرأة. وتبدأ الرواية سنة 1950 وتنتهي أواخر ثمانينيات القرن العشرين، بطلها شاب يدعى ريكاردو سوموكوثيو، يرفض واقعه ويقاوم الاستسلام لفكرة العيش في مسقط رأسه البيرو، لينتقل مثل بول غوغان عبر عواصم العالم، بحثا عن الحب والسعادة، وسط تحوّلات العالم الأكثر عنفا وراديكالية.