تشكّل المقاهي ''موطنا'' يتساوى فيه العاملون، سواء الحاصلين على شهادات عليا أو من يحوزون مستوى تعليميا ضعيفا، فكلا الصنفين يتفقان على أن امتهان عمل ''القهواجي'' هو تطبيق لقاعدة ''شدّ اليد حتى يفرج ربي''.. فإذا كانت تدرّ أرباحا على البعض فيقبل بها ''مهنة''، أما آخرون فيرضونها شريطة ''التأمين على حياتهم''، لكن هيهات ما دام أنه حلم يطارد ربع مليون ''شاب قهواجي''. كلاهما في ''الهوا سوا'' لكن حفظ الدرس قاسمهما غير المشترك مهنة ''القهواجي'' تساوي بين المتعلّم والجاهل صحيح أن العمل بالمقاهي ليس عيبا، وحتى وإن كانت مهنة ''القهواجي''، في نظر عامة الناس، تستقطب فقط من فشلوا في مشوارهم الدراسي وغادروا مقاعد الدراسة في سن مبكرة، وبالتالي احترامهم ليس ضرورة. لكن الملاحظ للتطوّرات الحاصلة خلال السنوات الأخيرة يدرك أن المقاهي أضحت تستقطب ذوي الشهادات الجامعية العليا والمستويات العلمية والتعليمية، نظرا ل''جفاف'' مناصب الشغل، حسب التخصّصات التي تحوزها هذه الفئة. مع مرور الزمن، أصبح ''القهواجية المتعلّمون'' يوظّفون ''إدراكهم'' لمطالبة أرباب عملهم لتأمينهم من مخاطر المهنة المرتبطة أساسا بآلات تعمل بالنار، فشرعوا في مسيرة ''نضال'' لإقناع ''المعلمين'' أن مطلبهم بسيط، ولا يكلّف كثيرا مقارنة بمداخيلهم ''الخيالية'' أحيانا، والتي يعتبرون طرفا أساسيا في تحقيقها. والوضع سيان، سواء على مستوى المقاهي الشعبية أو تلك الموجودة في الأحياء الراقية، فلكم أن تصدقوا أن بعض أصحاب المقاهي، حسب شهادات ''قهواجية''، يشترطون حيازة هؤلاء على شهادة علمية مقابل توظيفهم، على اعتبار أن زبائنهم من ذوي ''القامات الرفيعة'' والإطارات السامية، ما يعني أن التعامل معهم يتطلّب من ''القهواجي'' أن يكون مستواه الثقافي والعلمي ورصيده اللغوي يساوي أو يفوق ''الزبون خمسة نجوم''، ومع ذلك تجد شبابا يقبلون بهذه الشروط دون فرضهم هم لشروط، وعلى رأسها ''التأمين''، لأنّ إجابة رب العمل ستكون ''كاين خوك في السوق، ويرضى بما لا ترضى أنت''. في المقابل، تشير أرقام شبه رسمية، توفّرت لدى ''الخبر''، أن المقاهي المنتشرة عبر أحياء ولايات الوطن، توظّف ما يزيد عن ربع مليون شغيل، تتراوح أعمارهم ما بين 16 إلى 35 سنة، جلّهم، إن ليس كلهم، ''غير مؤمّنين اجتماعيا''، إلا من تكفّل بتأمين نفسه لدى الضمان الاجتماعي كل سنة. ومطلب التأمين، حسب قهواجية ممن شملهم استطلاع ''الخبر''، ضرورة ملحة بالنسبة إليهم، وطالبوا بتدخّل الجهات المعنية لإجبار أصحاب المقاهي، بنصوص قانونية، على تأمين مستخدميهم من المخاطر التي قد يتعرّضون لها خلال عملهم، حيث إن آلات عصر ''القهوة'' وتحضير الحليب تعمل بواسطة النار، وحتى الثلاجات بالكهرباء، لاسيما خلال تعطّلها لا يلجأ ''رب العمل'' إلى ذوي الاختصاص في المجال، بل إلى ''القهواجي'' لتصليحها، ربحا لمصاريف إضافية، وبالتالي مواجهته لشتى الأخطار والمخاطر. ويقول محدّثونا إن تخلي ''الدولة'' عنهم جعلهم في ''الحضيض''، رغم أن ''القهواجي'' مهنة محترمة كغيرها من المهن، تستدعي من المسؤولين ''تقنينها'' بالضمان الاجتماعي، لأنها مصدر رزق الآلاف من الأشخاص، بالخصوص من لا يملك حلا آخر سوى العمل بالمقاهي. واللاّفت في مهنة ''القهواجي'' أنه مطالب بحفظ وصون لسانه، وكلما استطاع حفظ هذا الدرس تمكّن من رفع رصيد مستحقاته المالية اليوم، لأنه أجير باليوم الواحد، لذلك تجد اختلافا بين ما يتقاضاه ''القهواجية''، فمنهم من تصل ''يوميته'' إلى 004 دينار، وآخرون يتلقّون ضعف هذا المبلغ ثلاث مرات، والسبب معروف، حسن السلوك، ولطافة الكلام مع الزبون، الذي هو رأس مال ''رب العمل''، فإذا فقده، فقد العامل منصبه فورا. كما تطالب هذه الفئة، مثل غيرها من العمال، بتمثيل نقابي، ولو صغير يدافع عنهم، ويكون حائلا دون جشع مستخدميهم، وعدم استغلالهم، خاصة وأن من بينهم متعلمين ومثقفين لم تسعفهم الظروف للظفر بمنصب شغل بالشركات الوطنية، الخاصة منها أم العمومية. بورتريه مختار بن يعقوب.. تجربة 30 سنة في المقاهي ''تحمّلت إهانات ورضيت بإكراميات مذلّة لمواجهة البؤس'' نشير في بداية الأمر إلى أن كثيرا من العاملين بالمقاهي، والمعروفين لدى عامة الناس باسم ''القهواجية'' ممن اتصلنا بهم، رفضوا بروزهم على صفحة الجريدة لأسباب خاصة بهم، ما عدا السيد مختار بن يعقوب، الذي قبل نشر مأساته دون الكشف عن صورته، التي رأى أن ظهورها قد يحرج وسطه العائلي. مختار بن يعقوب، الذي قضى زهاء 30 سنة خدمة في عديد المقاهي، وفي أكثر من مدينة لبّ فيها طلبات الآلاف من الزبائن المترددين على ''القهوة''، من مختلف الذهنيات والمستويات الاجتماعية، يقول: ''صحيح أنّ خادم الرجال سيّدهم، لكن الواقع الذي عايشته وأنا أمارس مهنة ''قهواجي'' لا يعكس هذه المقولة، التي قد ترفع المعنويات بين الحين والآخر''. مهنة ''قهواجي''، بالنسبة لمختار، رمز للبؤس والشقاء، ومن يمارسها يجب أن يتحلى بالصبر. فزيادة على متاعبها المتمثّلة في التنقّل بين طاولة وأخرى، وتلبية طلبات كثيرة لأكثر من زبون في آن واحد، فإنها تشعره أحيانا بالمذلة من خلال معاملة الزبائن له بطريقة مشينة. وفي هذا الصدد، ذكر أن من الزبائن من يناديه ليعرض عليه طلبه وكأنه ينادي خادمه أو عبدا يملكه، ''وهذا ما يجعلني أشعر وكأنني أقل خلق الله شأنا''. وذلك إضافة إلى من يحقره أو يسبّه أو يصفه بوصف فيه تقليل من ''القدر'' و''القيمة'' لشخصه، ''وأحيانا كثيرة تعرّضت للاعتداء أو التهديدات بالضرب من قبل شباب طائشين''. ويؤكد محدثنا أن عمله كملبي لطلبات زبائن في المقاهي خلّف لديه آلاما في الظهر، الكتف والأطراف السفلى، حيث لم يعد يقوى على الوقوف والتنقل بحيوية بين الطاولات، كما كان في السابق، ورغم ذلك فإن دخله الشهري أو الأسبوعي لا يكف حاجياته ومتطلبات عائلته اليومية، كما أنه يعمل من دون حماية اجتماعية منذ سنوات، وليس له أمل في منحة تقاعد مستقبلا. وفي سياق حديثه عن قلة الأجر، الذي لا يتعدى الحد الأدنى للأجور، أوضح أنه يأمل دائما فيما يقدّم له من إكراميات من بعض الزبائن، ولو أن بعضهم يقدّمها بطريقة فيها إذلال، ''ولكن ما عساي أن أفعل سوى الصبر، ما دام أن 5 دنانير من كل طاولة من شأنها سد ثغرة ما''. وعادة ما تدفع هذه الإكراميات، أو أكثر منها، لصاحب المقهى، كتعويض على كؤوس أو زجاجات مشروبات كسرها ''القهواجي'' خلال قيامه بعمله. وما يطالب به السيد بن يعقوب هو إيفاد الجهات المختصة لجان تحقيق على مستوى المقاهي، للوقوف على وضعية ''القهواجية'' المهنية والاجتماعية، وضرورة فرض تأمين هذه الفئة وإعطائهم حقوقهم التي تحفظ كرامتهم، على أصحاب ''القهواجي''. شاهد من أهلها نائب رئيس المنظمة الوطنية للتجار والحرفيين- قيد التأسيس- ل''الخبر'' ''تأمين القهواجية حق يكفله الدستور لكنه غير مطبّق'' قال نائب رئيس المنظمة الوطنية للتجار والحرفيين الجزائريين-قيد التأسيس- رافع بن زيد، إن مهنة ''القهواجي'' بقدر ما تستقطب الكثير إليها من العمالة، بقدر ما ينفر منها آلاف آخرون، بسبب غياب التأمين رغم أنه حق تكلفه قوة الدستور. وقال، ردا على أسئلة ''الخبر''، إن أجهزة الدولة المعنية بالقضية، مطالبة بالتدخّل، ضمانا وحفاظا على حقوق هذه الفئة. هل سيكون لفئة ''القهواجية'' تمثيل لدى منظمتكم في حال اعتمادكم رسميا؟ بالطبع هي فئة تستحق التمثيل النقاب للدفاع عن حقوقها، رغم أننا تنظيم يهتم بالعمال غير الأجراء ممن يمارسون مهنا خاصة بهم. لكن الإشكال بالنسبة لهؤلاء أن عددا كبيرا منهم يشتغل لدى أصحاب المقاهي هم أنسفهم غير مؤمّنين، والقانون الذي يتحكّمون له هو تحديد سن التقاعد بالنسبة لهم في 65 سنة، فإذا أراد تغيير نشاطه، ولو بسنة، لا يستطيع التحرّك حتى بلوغ السن المحدد. والغريب هو أن القانون غائب وغير مطبق في هذا مجال التأمين، رغم أن الدستور الجزائري يكفل لكل عامل، دون استثناء، التأمين على نفسه، لكن للأسف السلطات لا تمارس دورها على أكمل وجه. هل يعني أنه يوجد مستقبل لهؤلاء؟ نعم و100 بالمائة، حتى إنه يمكن الارتقاء بهذه المهنة إلى مصاف السياحة، ويصبح لها مكانة وسط المجتمع، لكن شريطة وجود نية حقيقية من طرف الجهات المعنية للجلوس إلى طاولة الحوار والأخذ باقتراحاتنا كشريك اجتماعي، والعمل على تجسيدها على أرض الواقع، لأنه حتى المقاهي لابد لها أن تخضع لقاعدة ''الرجل المناسب في المكان المناسب''. وماذا تقترحون؟ تنظيمنا له آلاف الحلول لخلق ما يزيد عن 500 ألف منصب شغل مع ضمان تأمينهم، لكنها اقتراحات مرهونة بمساعدة الدولة. وبالعودة لفئة القهواجية فمصيرهم، أيضا، مربوط بما تقدّمه السلطات لنا. فمثلا يمكن لهذه الأخيرة التكفل بجانب تأمين القهواجية، على أن يضمن رب العمل، وهو صاحب المقهى، أن يدفع له راتبا محترما. من جانب آخر، عمال ما قبل التشغيل عدد كبير منهم يتلقون المنحة المقدّرة ب15 ألف دينار، لكنهم لا يعلمون، وبالتالي يمكن استغلال هذا الأجر بتأمين ثلاثة عمال لدى الضمان الاجتماعي، وليكونوا مثلا ''القهواجية''، وهو ما يعني خلق الآلاف من مناصب الشغل، وتحفيز إعادة إحياء مئات المهن، على رأسها المرتبطة بالمقاهي وشركات البناء.