أصبحت إمارة دبيبالإمارات العربية المتحدة عاصمة ناطحات السحاب، وعاصمة المال والأعمال، ولكن ليس هذا وفقط، فالديكور الخلفي لإحدى أكبر المدن في العالم استقطابا للسياح أسواق تجلب إليها جزائريين حوّلوا الرحلات التي تربط بين الجزائرودبي، مرورا أحيانا بالدوحة في قطر، إلى جسر ''تبزنيس'' لجلب سلع تباع هناك من دون ضريبة على القيمة المضافة ولا أيّ ضرائب أخرى. حتى قبل إقلاع الطائرة التي كانت ستقلّنا إلى الدوحة، لنلتحق بعدها بدبي، أثار فضولنا كثرة الشباب المتواجد على الرحلة، الذين اقتصرت أمتعتهم على حقائب يدوية.. فضولنا زاد حينما سأل الجمركي، قبل ركوب الطائرة، أحدهم ''كم بحوزتك من العملة الصعبة؟'' فردّ الشاب ''7 آلاف أورو..''، مبلغ معتبر يمثّل، أيضا، الحد الأقصى القانوني لما يمكن أن ينقله أي شخص من العملة الصعبة وهو يغادر أرض الوطن. رحلة ''البزناسية'' والصينيين لحظات قبل إقلاع الطائرة من أرضية مطار هواري بومدين، وقبل أن يغيب ''مجال التغطية'' عن الهواتف النقالة، التقطت آذاننا أطراف حديث لبعض المسافرين مع معارفهم، كلها تتحدّث عن دبي وعن أسواقها، فقال أحدهم لمحدّثه ''راني خايف مايكفوش الدراهم في دبي''، وقال آخر ''كي نلحق نعيّط لعبد الحكيم نسوّفو كيف كيف''.. الطائرة لم تكن تقل طبعا ''البزناسية'' فقط، فكان هناك عدد معتبر من العمال الصينيين. ولمن لا يعرف أبجديات تحويل المسافرين من مرفأ وصول الطائرات إلى مطار الدوحة الدولي إلى مرفأ الذهاب، ما عليه سوى أن يقتفي خطا أصحاب الحقائب اليدوية و''الشمّة''، فالأغلبية الساحقة منهم سيتوجّهون إلى رحلة دبي من مطار الدوحة. هؤلاء لن تجد لهم أثرا في أحياء المال وناطحات السحاب، ولن تجد لهم أثرا في الفنادق الفخمة، المتناثرة كالفطريات في قلب إمارة دبي، فأغلبهم يفضّلون الفنادق متدنّية الثمن، التي يقيم فيها المهاجرون الباكستانيون والبنغال، والتي لا يتعدى سعر قضاء الليلة الواحدة بها 30 أو 40 درهما إماراتيا، ومن محاسن هذه الفنادق أنها متواجدة بكثرة في قلب الأسواق التي يقصدونها، مثل سوق الديرة. سوق الديرة.. مزيج من ''الجرف'' و''السمّار'' في مطلع نهار اليوم الموالي لوصولنا، قرّرنا تقفّي آثار هؤلاء، فسألنا أحد مسؤولي فندق إقامتنا، فكان ردّه أن أحسن مكان للتسوق هو سوق الذهب أو سوق الديرة، الذي يمكن الوصول إليه عبر مترو دبي.. مترو متطوّر جدا وجميل للغاية، يمتد على طول 69 كيلومترا عبر خطين، الأول أحمر والثاني أخضر، ولا تزال الأشغال متواصلة لتمديده عبر عدّة نواح من مدينة دبي، وهو أيضا أكبر مترو آلي في العالم، بمعنى أن العربات تسير دون سائق، وبه أيضا ما لا يقل عن 3 آلاف كاميرا مراقبة. لبلوغ سوق الديرة يجب النزول في محطة ''الراس''، والمشي بعدها نحو خمس دقائق لبلوغ سوق الديرة، مرورا عبر محلات البيع بالجملة لمختلف الألبسة، خاصة الصينية، وبعض المنتجات الغذائية، ليبلغ المرء بعدها مكانا يعدّ بوابة سوق الديرة، وهي سوق الذهب.. فضاء مغطّى بسقف خشبي جميل، ينشط فيها ما لا يقل عن 100 محل بيع المجوهرات، تعدّ مقصد الكثير من السياح و''البزناسية''، بسبب أسعار الذهب المتدنّية، رغم ارتفاع سعر هذا المعدن النفيس في الأسواق العالمية، بفعل الأزمة المالية التي جعلت منه (الذهب) المفر الوحيد. سوق الديرة يعدّ مزيجا بين حي الجرف بالعاصمة، حيث تتكاثر محلات بيع مستلزمات البيت وغيرها، وسوق السمّار لبيع المواد الغذائية بالجملة. التسوّق بهذه السوق يحتّم على مرتاده إتقان اللغة الإنجليزية، فحوالي 95 بالمائة من الباعة من الباكستانيين والبنغال، أما قلة قليلة فمن لبنان ومصر وأفغانستان، الذين يتقنون لغة القرآن قليلا. ''جزائري''.. وكأنها مكتوبة على الجبين حاولنا جسّ نبض سعر الذهب، ومقارنته بالسعر الملتهب في الجزائر، غير أن ما لفت انتباهنا، في كل مرة، هو أنه كلما وطأت أقدامنا محلا إلا وسمعنا ''مرحبا يا جزائري'' (بالإنجليزية طبعا)، وكأن جنسيتنا مكتوبة على الجبين، وفي كل مرة نسأل عن كيفية التعرّف على جنسيتنا يردّ علينا: ''جزائريون كثيرون يتسوّقون هنا، وصرنا نعرفهم حتى من نظراتهم وطريقة مشيهم، وطبعا من اللهجة''. نفس الشيء قاله لنا بائع أفغاني يجيد اللغة العربية، تبادلنا معه أطراف الحديث، بعد أن ردّ السلام قائلا ''السلام على أهل الجزائر''، حيث قال ''عدد معتبر ومتزايد من الجزائريين يأتون إلى دبي للتسوّق، ويبدو أنهم باعة ويقتنون كميات معتبرة من الذهب والعطور وبعض البضائع الأخرى، فصرنا نستطيع أن نعرف الجزائري دون أن يتكلّم كلمة (يضحك)''. ولما نعلم أن سعر الذهب 18 قيراطا منخفض ما بين 30 و40 بالمائة مقارنة بسعره في الجزائر ندرك شغف ''البزناسية'' بسوق الذهب بدبي، غير أن الإشكال المطروح عامة هو أن أشكال الحلي أو التصاميم التي غالبا ما لا تستجيب لأذواق الجزائريات، فغالبا ما يتمّ إعادة بيع الذهب ليصهر ويعاد تصميمه وفق التصاميم المستحبة في الجزائر، ومع ذلك فإنه من الممكن العثور على حلي بتصاميم غربية من النوعية المحبوبة هنا. عطور وأجهزة إعلام آلي بأسعار.. ولا في الأحلام الخروج من سوق الذهب وسقفها الخشبي، يقود إلى حي ضخم يعجّ بالحركة وبمحلات تعدّ بالمئات، يستحيل على الزائر أن يطوف بأغلبها، وليس كلها، في يوم واحد، يرتكز فيه باعة الملابس، العطور، أجهزة الإعلام الآلي، الحقائب، الأجهزة الكهرومنزلية، وغيرها. فبشأن العطور يجب التسلّح بالكثير من المعرفة في المجال والفطنة، لعدم الوقوع في فخّ ''العلامات المقلّدة''، حتى وإن كان الباعة هنا يجمعون على أنه يستحيل عليهم بيع المقلّد، بسبب صرامة السلطات الإماراتية في محاربة التقليد، وهنا أيضا اقتناء قارورة عطر أوروبي ''فريفة''، كما يقال، يعدّ صفقة أكثر من مربحة، فقد يصل الفارق في سعرها بين دبيوالجزائر إلى 60 بالمائة، فعلامة عطر رجالي فرنسي شهير تُباع في الجزائر مقابل 13 ألف دينار تقريبا، يمكن اقتناؤها مقابل 280 درهم إماراتي ما يعادل 6 آلاف دينار جزائري. كما يمكن العثور على عطور أقل ثمنا بكثير، المعروفة عندنا ب''عطور دبي''، لكن العثور عليها ليس بالأمر السهل، وغالبا ما تباع بكميات كبيرة ل''البزناسية''، ويقتصر بيعها للعامة عبر باعة الأرصفة، الذين هم دوما في لعبة الكرّ والفرّ مع شرطة دبي. الأمر نفسه بالنسبة لأجهزة الإعلام الآلي، فالأسعار المتعامل بها هنا تعد خيالية.. خيالية ليس لارتفاعها بل لانخفاضها، فحاسوب محمول من علامة مشهورة جدا يباع في الجزائر مقابل 50 ألف دينار، مقترح في هذه السوق مقابل ما قيمته 27 ألف دينار. وكذا بالنسبة للوحات الإلكترونية، موضة العصر، فأشهرها تباع في الجزائر مقابل 60 ألف دينار ومقترحة في دبي مقابل 37 ألف دينار. سألنا عن السرّ في كل هذا ''الخير''، فكانت الإجابة أن الإمارات العربية المتحدة لا تعترف بشيء اسمه الضرائب، وخاصة الضريبة على القيمة المضافة، التي تساهم في ارتفاع أسعار كل شيء عندنا، وغيابها في الإمارات يساهم في تخفيض أسعار كل شيء، وهو ما يجعل هذه السوق مقصد السياح الأوروبيين خاصة، ومن كل ربوع العالم، حتى من الولاياتالمتحدة، ليس فقط للاستمتاع ببرج الخليفة، أعلى مبنى في العالم، بل أيضا للتسوّق. ليبقى السؤال مطروحا بالنسبة ل''بزناسية'' الجزائر، أو تجار ''الشنطة''، كيف يقومون بإدخال هذه السلع دون دفع ولا سنتيم ضرائب؟ ''دبي مول''.. لمن يريد ''اللوكس'' بعيدا عن أزقة سوق الديرة، وعلى سفح برج دبي، يتربّع مركز تجاري ضخم على مساحة كبيرة، وهنا، أيضا، يستحيل زيارته في يوم واحد فقد تحتاج إلى يومين أو ثلاثة للطواف بكل أجنحته، في مقدّمتها محلات العلامات الأكثر من عالمية، علامات ''اللوكس''، التي تقترح، مثلا، ساعة يد مقابل 25 مليون سنتيم، أو عقد حلي مقابل 40 مليون سنتيم، وهذه الأسعار طبعا من دون الضريبة على القيمة المضافة. ويكفي إلقاء النظر على مرآب المركز التجاري وعلامات السيارات المركونة به، لمعرفة طبيعة الزبائن، فلا أثر هنا للسيارات الفرنسية الصنع، أما ''الماروتي'' أمامها فستبدو حقيقة أنها علبة حديدية صغيرة الحجم لا غير. لكن يمكن، أيضا، إبرام صفقات مربحة عبر بعض المحلات التي تقترح ملابس جيدة النوعية مقابل أسعار معقولة.. ويمكن القول بعد كل هذا إنه وإن كانت الجزائر عن منأى من الربيع العربي، فدبيوالإمارات في منأى عن الفصول الأربعة.