الجزء الثاني والأخير بعد أن تطرقنا أمس، إلى مذكرات لخضر بن طوبال، من زاوية انعكاسات الاستراتيجية الفرنسية الجديدة التي اعتمدتها الجمهورية الخامسة، والتي وضعت الثورة في ظروف جد قاسية، أدت إلى تدهور معنويات المجاهدين، نتناول اليوم انعكاسات تدهور الأوضاع في الداخل على القادة في الخارج، وما ترتب عنها من أوضاع بلغت حدة التآمر على الحكومة المؤقتة من قبل جماعة ''العموري''، بدعم من المخابرات المصرية. طرح بن طوبال في هذا الجزء من مذكراته السؤال التالي: ماذا لو بقيت القيادة في الداخل؟ وقدّم الجواب التالي: ''من الصعب الإجابة عن السؤال بواسطة مسلّمة، تجعلنا نقول أنه لو بقيت القيادة في الداخل كان يمكن تفادي هذه الأوضاع. أي قيادة في الداخل تعيش في عمق الأوضاع النضالية. تتقاسم نفس العذاب مع الشعب. تعرف الاحتياجات الحقيقية للجيش ونقائصه. نظريا، قيادة في الداخل لا تعوض. وينطبق هذا الرأي على القائد الذي يعيش نفس الأخطار، ويدرك نفس الحاجيات التي يتطلبها رجاله. وحتى على المستوى البسيكولوجي، لما يكون القائد حاضرا وسط جنوده، ترتفع معنوياتهم. والآن هناك أمر مؤكد، فكل القيادة التي غادرت الداخل، مهما كانت الأسباب، تجد نفسها بعيدة عن ساحة الكفاح. حتى وإن كانت الظروف والعوامل تبينّ أنه كان من الصعب عليها أن تبقى في الداخل. ويمكن القول أنه حتى ولو أطلق القادة نداءات للنضال وتحمل المحن، والتضحية، وهم بعيدون عن ساحة المعركة، فيظلون بعيدين عن الواقع. وفي الحقيقة لم تكن لجنة التنسيق والتنفيذ قادرة على البقاء في الجزائر العاصمة. كان بإمكانها بالتالي الانسحاب إلى الجبال والعيش مع المجاهدين.. لكن يبقى أن مشكل التموين والأسلحة كان يبقى بدون حل''. ويضيف: ''يبقى أن نتساءل هل بذلت القيادة في الخارج كل مجهوداتها لإيجاد حلول لكل المشاكل التي لم تجد لها حلولا في السابق. وبإمكاني أن أقول اليوم، إن بقاء القيادة في الداخل كان جديرا بأن يؤدي إلى تجاوز بعض الفشل، وكان بإمكانها تجاوز التصفيات أو الحيلولة دون تدني معنويات الجنود. وتناول بن طوبال بشكل سريع التصفيات التي وقعت في الولاية الثالثة والرابعة ضمن ما يسمى بقضية ''لابلويت''، وكتب في مذكراته: ''الحقيقة أن التصفيات جاءت كنتيجة لتدهور معنويات الجنود. فالجسم يمرض لما يكون الروح مريضا أيضا''. وأضاف: ''أعتقد أنه لو بقيت القيادة في الداخل، فإن كل ذلك لن يحدث''. كيف وقفت المخابرات المصرية وراء مؤامرة العموري وتناول لخضر بن طوبال في مذكراته تفاصيل مثيرة عن ما أصبح يسمى بمؤامرة ''العموري''، وكتب ما يلي: ''في الكوم الشرقي، لم تشهد الثورة ظاهرة الانشقاق بين المجاهدين القدامى، والذين التحقوا حديثا بالثورة، حتى أن الرواد لم يعارضوا ترقية الجدد في مراكز القيادة. على مستوى القيادة مثلا كان يوجد بن عودة وهو أحد مجاهدي الساعات الأولى، وعضو جماعة ال 22، لكن لا أحد وافق على تعيين محمدي السعيد على رأس الكوم، فالروح ''الولائية'' كانت متفشية، وكان من الصعب تجاوزها. وقبل تشكيل ''الكوم'' كان لكل ولاية مسؤول على الحدود مكلف بضمان إيصال الأسلحة للوحدات القتالية في الداخل. وبما أن عدد المنخرطين في الثورة تزايد على الحدود بفضل التجنيد المستمر الذي كان يجري على الحدود في أوساط اللاجئين الجزائريين، أو بسبب تزايد عدد الوحدات التي كانت تأتي إلى الحدود الشرقية للحصول على الأسلحة، أصبح ضروريا إيجاد قيادة موحدة. وكلف ''الكوم'' بهذه المهمة. لكن كل قائد بقي يحتفظ بقواته، وبنفسه قائدا عليها. ولا أحد كان يقبل التدخل في شؤونه. رجال العموري مثلا كانوا تحت تصرفه فقط، وكذلك الحال بالنسبة لباقي القادة''. ولم يكن، للثورة حسب بن طوبال، أي قيادة موحدة في الواقع، وكانت النزعة ''الجهوية'' (الولائية) منتشرة بدل قيادة مركزية وجيش موحد. وأورد في مذكراته: ''لقد انفجر هذا الوضع وتحول إلى أزمة حقيقية. وأصبحت قيادة أركان ''الكوم'' محل انتقاد، وبرز تمرد ضده، وكان يجب حل هذه الهيئة. وتم إبعاد كل أعضائه. بعضهم تم نقله إلى تمثيلية جبهة التحرير بالقاهرة. بدون وظائف محددة. كثير منهم خضع للأوامر واحترم القرارات المتخذة. وآخرون على غرار العموري، ومصطفى لكحل، اللذين أبعدا إلى القاهرة، لأسباب مختلفة، قاما بإجراء اتصالات مع الطلبة الجزائريين، وشرعا في حملة ضد الحكومة المؤقتة. وقام المكتب الثاني المصري، وعبد الكريم الريفي، باستعمالهما. كان هذا الأخير عسكريا، وبقي حبيس عقلية عسكرية. كان يعتقد أن الرجل السياسي خال من كل صدق. وكان يسعى للتمرد على حكومة السياسيين. وكان يقصد فرحات عباس ومسؤولي الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني. وبالأخص الدكتور لمين دباغين الذي كان يعرفه معرفة جيدة. لكن لا يمكن اعتبار تحرك عبد الكريم بمثابة الفعل المحرك الذي أدى إلى وقوع ''مؤامرة العموري''. فالمسؤول عنها هو المكتب الثاني المصري الذي أجرى اتصالات مع العموري ومصطفى لكحل، ونظم لقاءات بينهما، وبين فتحي الديب المكلف بالعلاقات مع الجزائر داخل جهاز المخابرات المصرية آنذاك. حينها كان المصريون يجهلون الخلافات بين قادة الثورة والتي كانت تغذيها النزعة الجهوية. وبعد تلك اللقاءات استنتجوا انتقادات ضمنها العموري ولكحل، وهم يتحدثون عن جهوية مزعومة لكريم بلقاسم ومحمدي السعيد. وأن الحكومة المؤقتة كانت معادية للعروبة والوطنية الناصرية. وشعروا في المقابل، حينما تعرفوا على وثيقة الصومام، أن الثورة الجزائرية اصطبغت بالصبغة الماركسية. وتيقنوا أن يد شيوعية كانت تقف ورائها. وليس هذا الكلام بمثابة استنتاجات بل هو كلام حقيقي، سمعه أعضاء الوفد الخارجي وبالأخص الدكتور دباغين ومهري. المصريين لما اكتشفوا وثيقة الصومام، اعتبروا ذلك بمثابة انحراف للثورة، وأنها أصبحت ماركسية وليست ثورة وطنية. أصبحوا ينظرون إلى الثورة بارتياب مع كل التأثير الذي أحدثته في العالم العربي، وظنوا أنها فلتت من أياديهم. وكانوا يرغبون في استعمالها ضد بورفيبة، وبطريقة رسمية طلبوا منا أن نتخذ موقفا ضده، بسبب عدائه للعروبة''. وحسب اعتقاد بن طوبال، لا يمكن تفسير رفض الثورة الجزائرية مسايرة هذا التلاعب فقط بسبب قضية العروبة، بحيث أن الوطنيين الجزائريين كانوا يؤمنون فعلا بوحدة المغرب العربي، الذي يملك خصوصيات غير موجودة في المشرق العربي. والمصريين كانوا يرفضون حسب ما ورد في مذكراته الاستماع إلى مثل هذه الخصوصية. ووقفوا ضد مؤتمر طنجة. وكانوا يعرفون أن الثورة الجزائرية لا تستعمل بسهولة. بحيث كانوا يعرفون مواقف بورفيبة ومحمد الخامس، لذلك كانوا يخشون أن ينفلت منهم هذا الاتحاد في حال تكونه. كانوا يعتقدون أن وحدة المغرب عبارة عن مسألة ظرفية، ومجرد تكتيك سياسي. وأن المغرب العربي لا يملك عمقا سياسيا ولا جذور، ولم يسبق لهم أن تمكنوا من إدراك وفهم الروابط التي توحّد شعوب المغرب العربي منذ أزمنة بعيدة. لقد فكروا وفق طريقة مبسطة، من جهة اعتبروا الدكتور دباغين مقربا من طروحاتهم، وكان بعيدا عن الحكومة المؤقتة، وأن فرحات عباس، رئيس الحكومة، كان فرانكفونيا، والذين لم ينظروا إليهم وفق هذه النظرة وبالأخص كريم بن طوبال وبوصوف، فكانوا يعتبرونهم مستقلّين كثيرا ومرتبطين بالجزائر، بالتالي يصعب استعمالهم. وخلص بن طوبال: ''كانوا يعتبرون أن الجزائرالجديدة وفق هذا التصور، لن تخضع لتصوراتهم، ومن هنا جاءت المساعدة التي قرروا تقديمها للجماعة المتمردة. والأخطر استقبل عبد الناصر شخصيا كل من العموري ومصطفى لكحل''. ويضيف بن طوبال أن هؤلاء اتصلوا بدورهم بعناصرهم المتواجدة على مستوى الحدود بغية الانقلاب على الحكومة المؤقتة. وجاء في المذكرات: ''حسب تصريحات المتمرّدين أنفسهم، وتم أخذها منهم خلال المحاكمات، فإن عبد الناصر يكون قد اقترح الانقلاب على الحكومة المؤقتة وتوقيف العناصر القيادية للثورة، بينهم محمود الشريف، كريم، بوصوف وبن طوبال، ثم يشرعون في إنشاء حكومة جديدة برئاسة الدكتور لمين دباغين. وقد طمأنهم عبد الناصر بشأن مواقف ولايات الداخل التي كانت، حسبه، معادية للقيادة والحكومة المؤقتة، وقدّم لهم ضمانات بالاعتراف بالحكومة الجديدة في أقصى سرعة. والتزم باستعمال نفوذه كي تعترف كل الدول العربية بالحكومة الجديدة''. وأضاف بن طوبال: ''اجتمعت الحكومة المؤقتة، واختارت وفدا من ثلاث شخصيات للتوجه إلى القاهرة. وكان على رأس هذا الوفد الرئيس فرحات عباس. بعد عدة محاولات بقي طلب لقاء الرئيس عبد الناصر دون جواب، وتطلّب الأمر تدخّل الموشير عامر لكي يستقبلنا عبد الناصر، لكن في كل مرة كانوا يرسلون إلينا فتحي الديب، أو أحد الوزراء لمعرفة السبب الحقيقي للزيارة. لقد فشلت كل مساعينا، وكل العلاقات لم تفض إلى أي شيء خلال تسعة أشهر. فشرعنا في خطة مغايرة، وذهبت مع أحمد فرنسيس للقاء الرئيس السوري السابق الخوالي. آنذاك كانت مصر متحدة مع سوريا، والخوالي كان عبارة عن شخصية نافذة. أخبرناه بمسألة المؤامرة ونوايا عبد الناصر. فاستقلّ طائرة في اليوم الموالي للقاء الرئيس المصري، بعدها قبل الرئيس عبد الناصر بلقائنا. وتم اختيار وفد يتكون من فرحات عباس، بوصوف وأنا. ذهبت رغما عني، وكنت أنوي إخبار الرئيس المصري باستعدادنا لنقل مقر حكومتنا من القاهرة إلى بلد عربي آخر''. ويروي بن طوبال أن هؤلاء القادة عرضوا على عبد الناصر كل عناصر القضية، دون نسيان اللقاءات التي خص بها المتمردين، وجعلوه يدرك بوضوح أن الأمر يتعلق هنا بمبادرة تتجاوز الحدود، وأن كل حكومة أجنبية عليها أن تحترم السيادة الجزائرية. واقترحوا عليه حلولا بغية التوصل إلى إنهاء الاضطراب الذي ساد العلاقات بين الثورة الجزائرية والحكومة المصرية، وتمثلت في اختيار وفد مصري يتوجه إلى عين المكان لتصفّح المحضر القضائي، واستجواب المعنيين إن كانوا يرغبون في ذلك. واقترحوا إنشاء لجنة مشتركة تستمع للعموري ورفاقه. وكان رد الرئيس عبد الناصر، حسب بن طوبال هو كالتالي: ''يوجد مبالغة في هذه القضية''. وكتب بن طوبال أن الحكومة المؤقتة قررت تغيير مقرّها ومغادرة القاهرة والتوجه إلى تونس. وبخصوص محمدي السعيد، كتب أن كريم بلقاسم ليس هو المسؤول الوحيد عن تعيينه على رأس ''الكوم''، فقد تم ذلك بشكل جماعي. وكشف: ''لا أظن أن محمدي كانت له نزعة جهوية''. وأضاف:''آنذاك استنكر رجال العموري اختيار كريم الرائد إيدير كرئيس لديوانه، بسبب ماضيه في الجيش الفرنسي. ويؤكد بن طوبال أن الرائد إيدير لم يساهم في تقتيل الجزائريين ولا تعذيبهم، بل اكتفى بالعمل السيكولوجي داخل الجيش الفرنسي.