تخوّف من موجة عنف أم من ''ثورة'' التائبين؟ باشرت سلطات العاصمة، منذ شهر أوت الفارط، حملة للقضاء على الأسواق الفوضوية المنتشرة عبر مختلف أحياء وبلديات العاصمة، كبلكور وباش جراح وبراقي والأبيار وزرالدة وسيدي امحمد، غير أن هناك أسواق فوضوية أخرى مازال الباعة فيها يعرضون سلعهم بطريقة عادية، وكأن قرار وزارة الداخلية لا يمسهم، لأنهم باعة ''فوق العادة''. بالرغم من التصريحات التي أدلى بها والي الجزائر العاصمة، عدو محمد الكبير، في عدة مناسبات، بأنه سيتم إزالة الأسواق الفوضوية نهائيا من عاصمة البلاد، مدعما هذا بإحصائيات تشير إلى أنه تم القضاء على 67 سوقا فوضويا من أصل 119، غير أن عدم إزالة سوق بومعطي ''الشهير'' أدخل الشك والريبة في النفوس حول السياسة التي تنتهجها سلطات العاصمة في تعاملها مع المشكل. وإن كان الوالي قد أوضح أن أسباب عدم إزالة السوق تعود، أساسا، إلى عدم اقتناعه، أو ''إعجابه''، بالسوق الجواري المنجز والذي لا يسع الباعة، مشددا على أنه لن يتم إزالة السوق إلى غاية إيجاد حل للباعة الذين ينشطون به، في وقت تم إزالة كل الأسواق الفوضوية الأخرى، دون الالتفات لمصير آلاف العائلات التي كانت تسترزق منها، ما جعل التجار الفوضويين يتهمون السلطات بانتهاج سياسة الكيل بمكيالين في القضاء على الأسواق الفوضوية. وقد زارت ''الخبر'' سوق بومعطي لجس نبض الباعة ومعرفة أسباب عدم إزالة أكبر سوق فوضوي بالعاصمة. ''..ولاد الحراش عصي الدولة لا تنفع معنا'' يظن الزائر لسوق بومعطي بالحراش، من الوهلة الأولى، أنه بأحد أسواق الحبشة أو الهند، نظرا للحشود البشرية التي تزحف إليه، خاصة وأن زيارتنا تزامنت مع يوم عطلة، حتى إننا وجدنا صعوبة في إيجاد منفذ للدخول إلى السوق، الذي اكتسحته الطاولات من مدخل المركز الثقافي دحمان الحراشي إلى غاية مقر مؤسسة الجزائرية للمياه، فحركة السير فيه كانت بطيئة بسبب الازدحام البشري، وخُيّل لنا أننا في مراسم الحج لرمي جمرة العقبة. الطاولات كانت على طول الطريق ووسط الطريق، بعضها هياكل حديدية والأخرى مثبتة في الأرض بواسطة الخرسانة، وهناك من استغل حتى الحائط لعرض الملابس الداخلية النسوية، فكل شيء يباع في السوق، ولا شيء يدل على أن السوق سوف يتم إزالته في يوم من الأيام، حتى أن الباعة وأصحاب الطاولات نسوا ''حكاية'' وزارة الداخلية نهائيا، مثلما جاء في كلام مروان ابن حي ''بيلام''، الذي يملك طاولة لبيع الأواني المنزلية: ''لا يمكن للسلطات إزالة سوق بومعطي، لأنها بذلك سوف تفتح عليها بابا من أبواب جهنم، ولأننا لن نسمح في مصدر رزقنا''، قبل أن يقاطعنا شاب آخر كان واضعا سماعات في أذنه، ينبعث منها صوت أغنية رايوية من أغاني الملاهي التي يتداولها الشباب، وعيناه نائمتان بفعل ''الروش والحمرا''، قائلا: ''يا خو احنا ولاد الحراش.. عصي الدولة لا تنفع معنا''. معظم أصحاب الطاولات بسوق بومعطي ينحدرون من الأحياء المجاورة، كسيدي مبارك و''ديصولي'' والحراش و''بوليو'' وباش جراح و''بيلام'' وجنان مبروك و''لامونطان'' والكاليتوس وكوريفة والشراعبة، وتم كراء بعض الطاولات لباعة من ولايات كالبليدة والمدية، فالأماكن مقسمة ومنطق القوي يأكل الضعيف هو الذي يسري في السوق. ''الطربافة'' وبارونات السوق السوداء.. الحائط الذي يحتمي خلفه باعة بومعطي وإذا كان مروان يؤمن أن ''الشرعية الحراشية'' هي التي جعلت الدولة تغض الطرف عن سوق بومعطي، خوفا من أن يكون الشعلة التي تلهب العاصمة، فإن سفيان، ابن حي ''بيلام''، يرى عكس ذلك، حيث قال: ''يا أخي، سوق بومعطي لن يزال، لأن فيه عددا كبيرا من ''المرونديين'' وأصحاب الجبل''. ''المرونديين'' و''الطربافة'' و''عليها نحيا ونموت'' مصلحات تطلق على الإرهابيين التائبين الذين نزلوا من الجبل بعدما شملتهم المصالحة الوطنية، والعديد منهم يشتغلون ويمتلكون طاولات ومحلات بسوق بومعطي، معظمهم ينحدرون من منطقة ''مثلث الموت''، كالشراعبة بالكاليتوس وسيدي موسى وبراقي. وحسب عدد من الباعة، ممن تحدثوا إلينا ورفضوا حتى الإشارة إلى أسمائهم، فإن طاولة ''الطربافة'' لديها حماية خاصة من قِبل السلطات، خاصة مصالح الأمن، إذ لا يتم حتى الاقتراب منهم أو التجرؤ على طردهم، وهو ما وجده العديد فرصة في مد جذورهم والتمرد على مصالح الأمن، باحتلال الطرقات والأرصفة بنصب الطاولات والخيم دون وجود أي رادع، ''فلا كلمة لرجل الأمن هنا''، كما قال أحدهم. وأضاف محدثونا أن العديد من ''المرونديين'' قاموا بكراء طاولاتهم لأشخاص آخرين هروبا من المشاكل، سواء الهمز واللمز، أو لقب ''الإرهابي'' الذي ظل لصيقا بهم رغم توبتهم منذ سنوات، كما إنهم غالبا ما يدخلون في مناوشات مع الشباب، بسبب التصرفات الطائشة والتحرشات الجنسية والسرقة التي تطبع سوق بومعطي، في حين فضّل آخرون تغيير حياتهم، والعديد منهم يشتغلون كمخبرين لدى مصالح الأمن لرصد أي ظواهر غير عادية، كما أكد أصدقاؤهم. كان من الصعب البحث عن ''مروندي''، أو إرهابي تائب، وسط جموع الباعة الفوضويين الذين يقدّر عددهم بالآلاف، لكن وساطة من أحدهم، أوصلتنا إلى ''ر.ب''.. مظهره يدل على أنه تعدى الأربعين سنة، يتحسس لحيته وأحيانا بطنه المنتفخة، أبدى تحفظا كبيرا بمجرد معرفته لهويتنا، وخوفا حاول إخفاءه خلف ضحكته، وبعد إصرار ردّ قائلا: ''واش تسحق باش نعاونك''، وعند طرحنا له فرضية عدم إزالة السوق بسببهم، قال: ''يا أخي هي مجرد إشاعات. لا غير كل الباعة سواسية، وعندما تقرر الدولة إزالته ستفعل ذلك دون الالتفات لأحد''، ليضيف ''نحن بسطاء ونقتات من طاولاتنا البسيطة..''، وعندما حاولت النبش أكثر فيه ودّعني بابتسامة، متحججا بالذهاب لأداء صلاة الظهر. مستوردون يبقون على السوق رغم أنف الجميع وإذا كانت رواية ''المرونديين'' قد تقبل الشك، ولا تعتبر سببا كافيا لإزالة سوق يشوّه العاصمة، فإن وجود أشخاص نافذين يحرصون على بقاء السوق أمر لا يدع مجالا للشك، خصوصا مع الارتفاع المذهل لمحلات تجارة الجملة التي تنامت كالفطريات، حتى إن العديد منهم لجأ إلى كراء فيلات ومخازن تقع في الأحياء المجاورة، بعد تشبّع البنايات والهياكل الموجودة أسفل العمارات. وأكد مراد، صاحب محل لبيع الملابس بالجملة، أن مستوردي السلع الصينية يعانون من غياب أسواق لطرح سلعهم، خاصة مع عملية القضاء على الأسواق الفوضوية التي باشرتها وزارة الداخلية، لذا استعملوا ''حق الفيتو'' لإبقاء هذا السوق، خصوصا وأنهم أول المستفيدين من بقاء الأسواق الفوضوية للتهرّب من الضرائب ومصالح قمع الغش، على الأقل ريثما يتم إنجاز أسواق جوارية أخرى لضمان استمرار نشاطهم وتجنّب الدخول في عطلة إجبارية، كما إن ''بارونات الفساد''، الذين يتكفّلون بتهريب السلع من حاويات ميناء الجزائر لطرحها في الأسواق الفوضوية بعيدا عن أعين الرقابة، لعبوا دورهم في الإبقاء على السوق، بعد خسارتهم لصفقة ''سوق باش جراح''، الذي أزيل في سبتمبر 2012. وإذا كانت هذه الفرضيات التي تدور في فلك الباعة وأصحاب الطاولات قائمة، في انتظار الإفراج عن السوق الجواري الذي تعتزم ولاية الجزائر إنجازه للقضاء على طاولات باعة بومعطي، يبقى السؤال مطروحا حول الدوافع الحقيقة وراء رفض السلطات إزالة أسواق ساحة الشهداء وباب الوادي وبن عكنون؟