هل قضايا الفساد التي طفت في الساحة مسألة تخص القضاء وحده؟ أم هناك مسؤولية سياسية على السلطة تحمّلها؟ ما رشّح لحد الآن بشأن تورط وزراء سابقين في صفقات ورشاوى، تغذي الانطباع بأن طريقة تعاطي السلطة معها يميل لترجيح كفة الفعل المنعزل الفردي وإبعاد دائرة مسؤولية الحكم عما وقع من فساد بشتى الوسائل الممكنة. فاكتفاء رئيس الجمهورية بالقول إن العدالة ستأخذ مجراها في قضايا الفساد، ليست بذلك التحفيز المنتظر الذي يجعل جهاز القضاء يقدّم بكل قواه من أجل تحقيق القصاص العادل، خصوصا وأن المتورطين في قضايا الفساد هم من فئة ''حاميها حراميها'' ومن الذين يصنّفون أنفسهم مقربين من الباب العالي. سكت عن ''سوناطراك 1'' ورمى الكرة في مرمى القضاء الرئيس يتملّص من مسؤوليته السياسية في فضائح الفساد ظهر من كلام الرئيس بوتفليقة بمناسبة ذكرى تأميم المحروقات، أنه ساخط على فضائح سوناطراك المتوالية، ولكنه ظهر أيضا متهرّبا من تحمل مسؤوليته السياسية والأخلاقية في هذه الفضائح، لأن الغارقين فيها محسوبون عليه بالدرجة الأولى. قال بوتفليقة بخصوص الفضائح، إنه على ثقة بأن القضاء الجزائري سيفك خيوطها وسيحدد المسؤوليات، وسيحكم حكمه الصارم بالعقوبات المنصوص عليها في القوانين. ويقصد الرئيس هنا، المسؤولية الجزائية المرادفة لعقوبة السجن في مثل هذه الجرائم الكبيرة. لكنه يتغاضى عن المسؤولية السياسية والأخلاقية المطروحة بحدة في قضية سوناطراك بالذات، وفي كل القضايا الكبيرة التي ألحقت ضررا بقدرات البلاد المادية طيلة 14 سنة من حكمه. وعندما يرمي الرئيس بالكرة في مرمى القضاء، هذا يعني أنه يريد التملّص من مسؤوليته السياسية والأخلاقية في الفضائح المدوّية، لأن الضالعين فيها ليسوا أشخاصا بسطاء. شكيب خليل، رجل أقنعه بوتفليقة بمغادرة الولاياتالمتحدةالأمريكية ليمسك بقطاع المحروقات الحيوي في الجزائر. وظل طيلة عشر سنوات يوصف بأنه من الوزراء المقربين من بوتفليقة. وفريد بجاوي ما كان له أن يجد كل تلك التسهيلات في سوناطراك، التي أتاحت له القيام بدور الوسيط في العمولات والرشاوى، لو لم يكن اسمه مقترنا بعمه محمد بجاوي رئيس المجلس الدستوري ووزير الخارجية، ورجل القانون الذي فصّل كل دساتير الجزائر وفق هوى النافذين في النظام، بما فيها دستور 2008 الذي أهدى فيه بوتفليقة لنفسه ولاية ثالثة. إذن بوتفليقة هو المسؤول الأول عن فضائح سوناطراك 1 وسوناطراك 2، وما هو غير معلوم من فضائح كبيرة. ومعروف أن اسم خليل ورد في الفضيحة الأولى عندما اندلعت في 2010، ودفع فيها رئيس سوناطراك محمد مزيان الثمن وحده مع بعض إطارات الشركة. والقضاء الذي يشيد به بوتفليقة اليوم، لم يجرؤ على استدعاء خليل لمجرد الاستماع إليه كشاهد، والسبب أن خليل محسوب على الرئيس، والمسؤولون في النيابة يعرفون جيدا ما هي الملفات التي يحرم عليهم الاقتراب منها. ولماذا لم يتدخل بوتفليقة قبل ثلاث سنوات ليقول رأيه في الفضيحة الأولى، رغم أن الضرر فيها كان بمئات ملايين الدولارات مثل الثانية؟ ما سبب تأخر الرئيس ثلاث سنوات ليقول إنه ساخط على التسيير في شركة المحروقات؟ لماذا سكت الرئيس طول هذه المدة وهو يعلم أن ما حدث في سوناطراك ليس شيئا بسيطا. فالشركة تعتبر رئة الاقتصاد الجزائري وتمثَل المصلحة العليا للبلاد. وما حدث فيها ليس جريمة عادية، بل مصنفة جريمة عظمى. وكل الدلائل تشير بأن خروجه عن صمته هذه المرة، يعود إلى الأبعاد الدولية التي اتخذتها الفضيحة الجديدة، وما يمكن أن تحمله من إفرازات سلبية له شخصيا على الصعيد الخارجي، لو أراد عهدة رابعة. الجزائر: حميد يس فضائح تورط فيها وزراء مقربون من الرئيس بوتفليقة ليس أمامه سوى تحمّل أخطاء اختياره للرجال هناك صورة تلخص حال الجزائر بشكل أكثر تعبيرا، صورة تظهر صرخة قضاة مجلس المحاسبة يشتكون من ''ضغوط'' عليهم تؤثر على استقلاليتهم في ممارسة مهمة الرقابة على المال العام، وصورة أخرى تقول إن ما يسمى بإعادة تقييم المشاريع الكبرى في برنامج الرئيس ما بين 2005 و2009 كشفت عن تكلفة إضافية ب10 ملايير دولار. فمن يتحمل مسؤولية هذا الفساد المستشري في دواليب الدولة؟. رغم أن الأحزاب التي كانت تشارك في الحكومة كانت ترسل، بمناسبة التعديلات الحكومية، قوائم بأسماء مرشحيها للاستوزار، غير أن الكلمة الأخيرة كانت دائما تعود لرئيس الجمهورية في اختيار من يكون وزيرا في حكومته منذ 99 إلى غاية اليوم، إلى درجة أن قيادات تلك الأحزاب كانت تفاجأ بأسماء وزراء لم يكونوا في ''أجندة'' اختياراتها. وكان الرئيس أيضا يحاسب من يشاء من وزرائه في إطار جلسات الاستماع الرمضانية ويعفي من يشاء، ولم يعزل أي وزير بموجب ذلك، حتى أولئك الذين قال عنهم أنهم ''يكذبون عليه''. وعندما طلت فضائح الاختلاسات والرشاوى والفساد المفجّرة للأسف الشديد في الخارج وليس في الداخل، على غرار فضيحة ''سيبام'' مع سوناطراك وقبلها ''بي.آر. سي'' وقضية ''أس.أن. سي لافالان'' والطريق السيار شرق غرب، ظهر في الواجهة أن الواقفين ورائها أو بالأحرى مهندسيها، هم ممن يسمون المقربون من رئيس الجمهورية، وليس فقط ممن أسماهم الوزير السابق عبد اللطيف بن أشنهو ب''الشياتين''. لقد تورّط شكيب خليل الذي كان وزيرا فوق العادة طيلة سنوات من حكم بوتفليقة، لم يكتف فيها بوزارة الطاقة، بل أيضا برئاسة سوناطراك، وكانت الأمور تسير منه مباشرة إلى أذن الرئيس، إلى درجة دفعت رئيس الحكومة الأسبق أحمد بن بيتور إلى الاستقالة. وجرت الفضيحة أيضا مع نجل وزير الخارجية الأسبق محمد بجاوي الذي كان هو الآخر من أشدّ المقربين إلى عبد العزيز بوتفليقة، إلى درجة تكليفه بمتابعة معاهدة الصداقة بين الجزائر وفرنسا. وهذه القائمة التي تم الكشف عن خيوطها في تحقيقات جرت في إيطاليا وكندا ليست نهائية، لأن ما جرى في الداخل من فضائح من طرف مسؤولين عيّنهم رئيس الجمهورية وتم التستر عما نهبوه من المال العام وأحيلوا على التقاعد في أسوأ الأحوال، يجعل من الفضائح المصرّح بها في الخارج مجرد نقطة من بحر الفساد. فهل يكفي أن يقول رئيس الجمهورية، أنه على العدالة أن تأخذ مجراها؟. القضية تستدعي من الرئيس أن يتحمل أخطاء اختياره لرجال تصرفوا مع أموال الشعب كملكية خاصة. ولحسن حظ الجزائر، أنه لم يسمع لشكيب خليل عندما دعا في 2008 إلى إنشاء صناديق سيادية لاستثمار الفائض من عائداتها النفطية في عمليات استثمارية بالخارج، لأنها كانت ستكون الضربة القاضية بعدما تحوّل الأقربون من السلطة إلى أولى بالنهب. الجزائر: ح. سليمان حوار الناشط السياسي والباحث في التاريخ محمد أرزقي فراد ل ''الخبر'' ''الرئيس يتقمص دور المعارض في فضائح سوناطراك'' قال الرئيس بمناسبة ذكرى تأميم المحروقات، إنه ساخط على فضائح سوناطراك. ماذا يعني هذا الكلام؟ يفترض في الدولة الديمقراطية وجود خطابين في الساحة السياسية، خطاب المعارضة المتميز بنقد سياسة الحكومة وما ينجم عنها من ممارسات خاطئة، وخطاب الحكومة الذي يأتي في شكل قرارات ميدانية تنفيذية، بحكم امتلاكها للسلطة التي تمكّنها من اتخاذ الإجراءات المناسبة للمشاكل المطروحة. ومن هنا أرى أن مسؤولية الرئيس أكبر من أن تحصر في التنديد، باعتباره القاضي الأول المالك لصلاحيات واسعة. وقد أدى اليمين على أن يدافع عن الدستور الذي يلزمه حماية البلاد والعباد من عبث العابثين. وعليه يبدو لي أنه من الخلل أن يتقمّص الرئيس دور المعارض، لأن ذلك يدفع بالأوضاع السياسية نحو التمييع وتكريس الشعبوية. هل هناك مسؤولية سياسية وأخلاقية في هذه الفضائح؟ ومن يتحملها؟ من الصعب أن نطبّق المفاهيم الديمقراطية على نظام غير ديمقراطي، كحالنا في الجزائر. نعم المسؤولية السياسية موجودة، يتحملها رئيس الوزراء الذي يخضع لمساءلة البرلمان. والمفارقة أن هذه المسؤولية ملقاة على عاتق من لا يحكم، إذ تنحصر مهمة هذا الأخير في تنفيذ سياسة رئيس الجمهورية فقط. وقد صيغ الدستور عندنا على نحو يجعل هذا الأخير يتمتع بصلاحيات واسعة، دون مسؤولية، ودون محاسبة، ودون مساءلة. وتسمى الحالة الجزائرية هذه ب ''النظام الاستبدادي''، لأنه تم الإخلال بقاعدة ''تلازم السلطة بالمسؤولية''، بدليل أن الرئيس لا يسأل عمّا يفعل، وعليه انتفت مسؤوليته السياسية دستوريا. أما المسؤولية الأخلاقية، فهي مرتبطة بقيمنا الأخلاقية. ومن ثمّ فكلنا شركاء فيها ولكن بدرجات متفاوتة. فقد علّمتنا ثقافتنا الإسلامية أن الساكت عن الحق شيطان أخرس. غير أن مسؤولية الحاكم الأخلاقية بمعية أعوانه، أكبر وأخطر أمام الله. فقد جاء على لسان نبيّنا محمد (ص) قوله: ''ما من عبد يسترعيه الله رعيّة يموت يوم يموت، وهو غاش لرعيته، إلا حرّم الله عليه الجنة''. ولا شك أن وزر المسؤولية الأخلاقية فيما حدث من فضائح، يقع على عاتق من اختار المسؤولين المتهمين بالفساد. هل تعتقد أن الضالعين في الفساد يملكون تغطية وحصانة من جهة ما في النظام؟ المشكلة في الجزائر تكمن في وجود نظام سياسي قائم على غير أسس الديمقراطية، منذ اغتيال الثورة ومصادرة الاستقلال حسب شهادة أخيار هذه الأمة. فنظامنا السياسي بُني عنوة على النظام الأحادي الشمولي، يرى أصحابُه أنهم مخلوقون ليكونوا حكّاما مدى الحياة دون محاسبة، في حين خلق الشعب -برأيهم- ليكون قاصرا مدى الحياة. إن النظام السياسي الذي تغيب فيه مبادئ التداول على الحكم وفصل السلطات واستقلالية العدالة وحرية الإعلام، هو نظام فاسد لا يعاقب المفسدين. الجزائر: حاوره حميد. يس رئيس الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان بوجمعة غشير ل''الخبر'' السلطة السياسية تخاذلت في مهمتها فشاعت سياسة اللاعقاب يرى رئيس الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان، أن ليس وحده القضاء من يتحمل مسؤولية مكافحة الفساد ولكن السلطة السياسية كذلك، إلا أنه يرى أنها ''تخاذلت'' في مهمتها. هل قضايا الفساد مسألة تخص القضاء وحده، أم هناك مسؤولية سياسية على السلطة تحملها؟ التركيز على القضاء في مكافحة الفساد، بمثابة تنصل من المسؤولية السياسية، كما أن التسليم بذلك يعني وضع علامة استفهام على ملفات الفساد، والكل يعرف أن العدالة غير مستقلة، وإذا انتظرنا قرارات العدالة دون تحمل المسؤولية السياسية، هذا يؤدي إلى تكريس سياسة اللاعقاب.. الفساد قضية مجتمع وأرى أنه من تحوم حوله الشبهات، يجب تحييده في انتظار التحقيق، فإذا ثبت تورط هذا الشخص أو ذلك، يحال على العدالة، وإذا ثبتت براءته يتم تعويضه على التوقيف المؤقت. أما إذا تركنا أشخاصا مشتبهين بالفساد في مكاتبهم يمارسون مهامهم بصفة عادية ويتعاملون مع الوثائق محل الشبهات، فمن شأن هذا الأمر التأثير على مجرى التحقيقات ومن ثمة الإفلات من العقاب. لكن ما موقع السلطة السياسية وهل تحملت مسؤوليتها السياسية؟ نعرف أنه عندما يتعلق الأمر بملفات الفساد الكبرى، فإن القضاء لا يتحرك إلا بالضوء الأخضر للسلطة السياسية، ونعرف أن القضاء يتحرك سريعا عندما يتعلق الأمر بقضية سرقة هاتف نقال. أما الملفات الكبرى، كقضية سوناطراك، فالسلطة السياسية هي من يقرر فيها، ولم نر أن القضاء أخذ زمام المبادرة من تلقاء نفسه وفتح ملفا من ملفات الفساد. لكن الذي نعلمه أن السلطة السياسية تحركت من خلال قوانين مكافحة الفساد؟ أريد أن أقول أنه منذ السنوات الأخيرة، حتى أجهزة الأمن والدرك لم تفتح أي ملف، عدا ما يقوم به الأمن العسكري، وإن كانت من مهامه الضبطية القضائية، لكن في الحالات العادية يفترض أن الشرطة والدرك هما الجهازان المخولان بالتحقيقات، وهذا معاناة أن السلطة السياسية هي من تقرر عندما يتعلق الأمر بكبرى الملفات. وماذا فعلت السلطة السياسية في قضايا الفساد الأخيرة؟ أرى أن السلطة السياسية تخاذلت كثيرا في قضايا عدة، وهذا التخاذل يعتبر نوع من التشجيع على اللاعقاب. للأسف هذا موجود حاليا، أما إذا نظرنا إلى القوانين، فقانون فيفري 2006 لمكافحة الفساد جاء رحيما جدا مقارنة بما تضمّنه القانون السابق، كما أن هيئة مكافحة الفساد التي تأخرت كثيرا في التأسيس، فيها أشخاص أبناءهم متورطون في قضايا فساد ، ولحد الآن لم تقدم شيئا. الجزائر:حاوره محمد شراق