الكثير من المبررات والحجج التي أسوقها للدعوة للتغيير والإصلاح، لم ترض صديقا، فراح يحاول إقناعي أنني أغفل عاملا هاما وهو أن الشعب نفسه كسول ومتحايل ينهب الملكية العامة أو يخربها لأنه يعتبرها ''بايلك'' بل وتصرفات الكثير من الناس لا تقيم للقانون وزنا. الفساد، كما قال، اجتماعي عام. وراح يقدم المثال تلو الآخر: خذ الطريق العام، تعالى نركب سيارة وانظر أن الناس لا تخالف القانون فقط، بل لا تقيم للقانون وزنا إلا إذا كان الشرطي حاضرا. أنظر ذلك الموظف في البلدية هل طُلب منه أن يتصرف بالطريقة التي يتصرف بها. وهل طُلب من التاجر أن يتحايل على زبائنه، وهل طلب من أستاذ التعليم من الابتدائي إلى الجامعة أن يتكاسل عن تحسين مستواه وحتى احترام المواعيد مع تلاميذه وتعليم طلبته الأخلاق وفضل العلم والمعرفة، أليس هناك أساتذة يمنحون النقاط ب ''المعرفة'' أو حتى بمقابل مادي أو عيني أو غيرهما؟ ثم هل طُلب من الشرطي أن يتعسف ولماذا لا يسير الناس على الأرصفة ولماذا يدفعون الرشوة كلما طلبت منهم وأحيانا من دون أن تطلب، ولماذا يتهرب الكثيرون من الجباية؟ ألم يعد كل هذا واقعا وبالتالي نظاما قائما .. من المسؤول عنه فساد إدارة الشأن العام فقط أم فساد المجتمع أيضا؟ فكيف تدعو لإقامة دولة القانون وكيف يمكن الحديث عن التغيير ودولة المؤسسات. إنها أحلام نخبوية واهمة. قلت لصديقي إن كل ما قاله صحيح وواقع. بل تذكرت، وبحزن شديد، ما قاله الشاعر أبو القاسم الشابي منذ حوالي قرن معبرا عن يأسه من حال الشعب في تلك الأيام ويبدو أن ما قاله الشابي ما زال ينبغي أن يقال اليوم. لنقرأ: أَيُّها الشَّعْبُ ليتني كنتُ حطَّاباً * فأهوي على الجذوعِ بفأسي... ليتني كنتُ كالشِّتاءِ أُغَشِّي * كلّ مَا أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي ليت لي قوَّةَ العواصفِ يا شعبي * فأَلقي إليكَ ثَوْرَةَ نفسي
بل وقال في قصيدة أخرى: أينَ يا شعبُ قلبُكَ الخافق الحسّاس؟ * أينَ الطُّموحُ، والأَحْلامُ؟ أينَ عَزْمُ الحياة؟ لا شيءَ إلاّ * الموتُ والصَّمتُ والأسى والظلامُ... أيُّ عيشٍ هذا، وأيُّ حياة؟! * رُبَّ عَيْشٍ أخَفُّ منه الحِمَام
ثم حاولت أن أبرر بالقول: المقال الصحفي لا يخوض في عمق المشكلات والظواهر التي يتطرق لها إلا نادرا. فالغرض الرئيسي من الكتابة الإعلامية هو إثارة النقاش وحتى المبالغة أحيانا لانتزاع الانتباه والاهتمام. ولكن، قلت لصديقي: النخبة، وخاصة المسيرة للشأن العام ومؤسسات الدولة وأجهزتها، مسؤولة عن إصلاح هذه الحال. وحتى الآن فشل السياسيون ورجال الدين وفشلت النخب من كل التوجهات في إحداث تغيير ذي بال في العقليات والذهنيات. وتذكرت أن الموضوع سبق وأن تطرقت له في مقال بعنوان: من الفاسد السلطة أم المجتمع؟!! ومما ورد في هذا المقال: ''.. البعض يروج وبشكل مغرض وخاطئ بل ومجرم لفكرة ''كما تكونوا يولى عليكم'' بما يعني أن المجتمع الفاسد لا بد له من سلطة فاسدة تحكمه بفساده..'' وأقول أيضا أن البعض الآخر يحاول فلسفة الموضوع والقول إن قيام نخبة رأسمالية جديدة في حاجة لغض النظر على بعض ''التجاوزات''! وفعلا ألا يثير فينا هذا الوضع كلنا ''الزعاف'' وحتى الثورة في وجه فساد الناس، فساد النفوس والكسل والتخلف وميل الكثيرين، إلى الكسب السهل وحتى إلى نهب كل ما يمكن نهبه. لكن قد يكون حال المجتمع والناس انعكاس لحال من التخلف تستمر منذ قرون وزادها الاستدمار وسياسات التجهيل المنهجية رسوخا كما جعلها عجز النخب الحاكمة وغير الحاكمة بعد ذلك تستمر زمنا آخر. مع ذلك لا ينبغي أن ننسى أننا شعب حضارة، فالأمية عنده لا تعني الجهل، والتخلف لا يعني استحالة العودة للإنتاج الحضاري. ولهذا ينبغي العمل بسرعة على تأهيل مؤسسات الدولة وتجنيد النخب وحثها بل وتحريضها على التفكير في الإصلاح الشامل، والجمع بين تعزيز مؤسسات الدولة وإعادة نشر الأخلاق في إدارة الشأن العام بالخصوص، أي: اعقلها وتوكل. الحمام: قَضَاءُ الموتِ وقَدَرُه.