في مثل هذا الشهر من السنة الماضية، خاطب رئيس الجمهورية الجزائريين، في الاحتفالات الخاصة بالذكرى 67 لمجازر 8 ماي 1945، وقال لهم بصريح العبارة “طاب جناني وعاش من عرف قدر نفسه”، في إشارة صريحة منه إلى تعبه من الاستمرار في سُدة الحكم وعلى رأس دواليب السلطة. ولم يكتف بذلك، بل استشهد بكلام الحكيم القدير: “لا يُكلّف الله نفسا إلا وُسعها”، معلنا نهاية حكم جيل الثورة والمجاهدين الذي ينبغي، كما قال، أن نقدم لهم إكليلا من الزهور، ونقول لهم انتهى دوركم في تسيير البلاد. تذكرت هذه الكلمات، وأنا أتابع تطورات مرض الرئيس الذي يقضي فترة نقاهة في إحدى غرف مستشفى “المعطوبون” بباريس، وكأني به كان يعلم بأن المَردّ إلى أرذل العمر أسرع وأبلغ من أصوات المطبلين والمزمّرين لعهدة رابعة، وأن وَهَن العظم واشتعال الرأس بالشيب، قدرٌ إلهي على بني البشر لا بد منه، ولا مفرّ من تخطي عتبات دائرته، فهذه سُنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وإذا كان القاضي الأول في البلاد، الذي أدعو الله أن يشفيه من سقمه ويرد عليه عافيته، قد اعترف بأن “جنانه قد طاب” بحكم تقدم السن ولعنة المرض، فإني أستسمح الرئيس لاستعارة هذه الكلمة، لأقول بأن جناني قد طاب، وأنا لم أُتم عقدي الرابع بعد.. كيف لا، وأنا أرى عاصمة الجمهورية وغيرها من كبريات الولايات تغرق في الأوحال والبرك كلما تساقطت زخات قليلة من المطر، لدرجة تفيض فيها النفوس إلى بارئها. لقد طاب جناني، وأنا أرى مصير بلادي ومستقبل أجيالها، بعد مرور خمسين سنة من الاستقلال، مرهون باقتصاد عصبه الوحيد ريع النفط، ومداخيل المحروقات. وطاب هذا الجنان وأنا أسمع عن كوادر جزائريين وعلماء متخصصين يتبوأون مناصب مرموقة في الخارج، تستفيد من خبراتهم وعلمهم بلدان أخرى، ولأني أشاهد قطاعا كبيرا من المرضى يموتون ببطء في المستشفيات، وأطفالا يستجدون رحمة الجمعيات الأجنبية لنقلهم للعلاج في الخارج، ومصابين بالسرطان تُعطى لهم مواعيد قد تطول سنة وسنتين. طاب جناني، وأنا ألحظ مؤسسات دولية أجنبية تحتال علينا جهارا نهارا، وتبتزنا عن طريق المحاكم الدولية لتأخذ منا تعويضات بملايين الدولارات، مستغلة غباء من تركوا ثغرات قانونية في الصفقات التي أوكلت إليها. طاب جناني، وأنا أكتب عن معاناة الشعب الجزائري من انقطاعات التيار الكهربائي كلما حلّ فصل الصيف، وعن محنتهم مع قارورات الغاز شتاء في بلد يحتل المرتبة الثالثة عالميا في تصدير هذه المادة. طاب جناني وأنا أرى الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، وأناسا قد لا يفكون الخط يمثلون الشعب ويصادقون باسمه على القوانين التي تسير البلاد والشأن العام. طاب جناني وأنا أرى مسؤولينا يواجهون غضب الشارع بسياسة رجال الإطفاء لشراء السلم مؤقتا وشعارهم في ذلك “أحييني اليوم واقتلني غدا”. جُنّ جنوني من فضائح البنك التجاري والصناعي والخليفة، وسوناطراك بمختلف حلقاتها، و«سايبام” وغيرها من الفضائح المتعاقبة... هل عرفتم لماذا طاب جناني في هذا السن؟