قرأت في “الخبر” نقدا لإحدى مقالاتي طرحت فيها مجرد سؤال يحتاج إلى نقاش أعمق حول هل هناك تشابه بين أحداث الجزائر 1962 والفتنة الكبرى في تاريخ الإسلام؟ ولم أقم فيها بعملية مقارنة في التفاصيل والجزئيات بين الحدثين، وقلت “تشابه”، ولم أقل “تطابق”. ومن يقرأ النقد يعتقد أنني أجهل ما قيل في الوقت الذي يعرفها أبسط تلميذ، ويبدو أن صاحبه لا يعرف معنى قراءة التاريخ في خطوطه الكبرى وغاياته وفلسفته والاستلهام منه وبين الدخول في بعض الجزئيات، فهو يشبه في كلامه ما يقع اليوم لتاريخ ثورتنا من اختلافات في سرد أحداث لا فائدة منها وتطاحن عن أول من أطلق الرصاصة في معركة من المعارك حتى مل شبابنا منه. ما قمنا به هو طرح مشكل جوهري ظل يتكرر عبر تاريخنا منذ الفتنة الكبرى، وهو الصراع حول السلطة بإستخدام العنف وتوظيف الدين والقبلية، ويأخذ ذلك عادة أشكالا متعددة دون أن يتغيّر الجوهر، فالإيديولوجية تعوّض الدين والجهوية تأخذ مكان القبيلة. أفلم يختلف الفرقاء في الجزائر منذ 1962 عمن هو أكثر مجسد لقيم الثورة ومبادئها، وخوّن بعضهم بعضا، واتهمت السلطة معارضيها بأنهم خونة تحركهم فرنسا، كما اعتبر الأمويون معارضيهم بأنهم مرتدين ويحركهم اليهود. وما نستغربه أن صاحب النقد يكرر لاشعوريا الأسطوانة نفسها، عندما يقول عن بعض المجاهدين المعارضين إنهم ولّوا وجوههم إلى فرنسا، وهي مقولة السلطة نفسها آنذاك، ألا يشبه ذلك اختلاف المسلمين الأوائل وحتى اليوم إلى فرق كل واحدة منها تعتبر نفسها مجسّدة الإسلام وهي الفرقة الناجية؟ ألا يشبه ما وقع للكثير من المجاهدين من نفي وسجن ما وقع لمعارضي بني أمية. وإن كان صاحبنا لا يعلم فلأنه سجين خطاب واحد في تاريخ الإسلام فرضته السلطة، في الوقت الذي يجب على المتابع للتاريخ الإسلامي أن يعود إلى الخطابات العديدة، لأن لكل فرقة خطابها الخاص بها، ويناقض الخطابات الأخرى في عدة قضايا، وما نشهده من احتقان طائفي بين الشيعة والسنة للأسف يعود إلى حرب الذاكرة بينهما حول الصحابة رضوان اللّه عليهم، وأيضا حول شرعية الحكم للأمويين أم لأهل البيت وشيعتهم الذين أطلق عليهم الأمويون الروافض، ولازال يستخدم إلى حد اليوم من الذين بقوا سجناء الماضي، وينطبق الأمر نفسه على خصومهم الذين لازالوا يدعون للثأر لسيدنا الحسين ولأهل البيت ممن يعتبرونهم أحفاد من يتهمونهم أنهم سلبوا الخلافة من أهل البيت، ولم يتخلص الطرفان من ثقل سلبي للتاريخ بدل وضع الأمور في إطارها الصحيح، وأنه مجرد صراع على السلطة بغطاء ديني، وانتهى آنذاك، وليس لدينا اليوم أي علاقة بهم، فأصبحنا لعبة في أيدي أعدائنا يلهينا بفتنة طائفية حول شخوص وأحداث مرّ عليها عشرات القرون. يجب علينا طرح سؤال آخر أكثر جوهرية وهو لماذا وقعت الفتنة آنذاك؟ ألا يمكن تجنّبها لو وضعت ميكانيزمات لحلّ مشكلة السلطة؟ لماذا تكرار صراعات دموية حول السلطة شبيهة بها عبر تاريخنا الإسلامي، ومنها الجزائر في 1962؟ لكن للأسف عملية تقديس شخوص التاريخ ورفض الحديث عن الصراعات المختلفة في مجتمعاتنا أبعد المسلمين عن طرح حلول لمشكلة السلطة، ولو طرحوا هذه المسائل لتوصلوا إلى حلّ لها، وأعتقد أن الأنظمة الإسلامية المستبدة في الماضي والحاضر قد منعت، بشكل أو بآخر، طرح مشكلة السلطة كي لا يشكك في شرعيتها، بالرغم من تلميح القرآن الكريم إلى هذه المشكلة الخطيرة في قصة آدم وأكله من “شجرة الخلد وملك لا يبلى”، أي السلطة بمعناها الشامل، فبرزت سوأته بعد أكله منها، أي تعرية الإنسان على حقيقته في حال الصراع حول السلطة. ولم ينتبه المسلمون لذلك، لأن المستبدين منعوهم من التفكير في مسائل السلطة، ولو طرحناها في وقتها لكنا قد سبقنا الغرب إلى الحل الديمقراطي السلمي للمشكلة. اليوم لم نفشل فقط في حلّ مشكلة السلطة، بل تقهقرنا إلى الوراء أكثر بسبب خطاب ديني مؤدلج لازال يعيش في الماضي، ويناقش قضايا تاريخية لا فائدة منها يأخذها من بطون كتب لا علاقة لها بحاضرنا، وهو ما سمح لأعدائنا إثارة مسائل الطائفية وإدخال المسلمين في فتنة كبرى ستشمل العالم الإسلامي كله بشكل لم يتصوّره أحد بسبب سيطرة النقاشات الدينية العقيمة في مجتمعاتنا، فمن المؤسف أن تقتل أناسا بسبب “هل علي هو أحق بالخلافة أم أبو بكر رضي اللّه عنهما؟”، فقد أصبحنا أضحوكة العالم والقوى الكبرى التي تفكر في إستراتيجيات كبرى، وتستلهم من الماضي لفهم الحاضر وبناء مستقبلها بدل البقاء سجناء الماضي وتفاصيله المملة والوقوف إلى جانب طرف ضد آخر في صراع انتهى منذ قرون. لست أول من طرح مسألة تكرار هذه الظاهرة، فقد سبق إليها ابن خلدون بالتفصيل عند تناوله نشأة الدول في بلادنا المغاربية، وقام محمد عابد الجابري بأخذ فكرة بن خلدون في دراسته لما أسماه “العقل السياسي العربي”، أي كيف يتصرف ويعمل هذا العقل، فوجد أنه لم يتغير قط، منذ بداية الصراع حول السلطة في تاريخ الإسلام، واستخرج محددات هذا العقل الثلاثة (العقيدة والقبيلة والخراج)، ودعا إلى القطيعة معها، وقد حاولنا تطبيق هذه المحددات على جزائر ما بعد استرجاع الاستقلال في الفصل الأخير من كتابنا “رؤساء الجزائر في ميزان التاريخ” في طبعته المنقحة، وعوّضت العقيدة بالإيديولوجية والقبيلة بالجهوية والخراج بالريع، وقد توصلت في آخر الكتاب الخاص بالسيناريوهات المستقبلية إلى القول بأنه لا مفر من انتقال سلمي ديمقراطي حقيقي، لتجنيب أمتنا فتنة وتفتت وفوضى.