توقفت الأسبوع الفارط بخصوص القصة القصيرة عند “ستاندال”، وها أنا أصل إلى “غوستاف فلوبير” (1821-1880) و”حكاياته الثلاثة” التي صدرت سنة 1877. والغريب في أمر هذه القصص هو أن فلوبير المعروف باشتغاله العميق على أسلوبه السردي، استغرق ثلاثين عاما في كتابتها. ويعود تأخر فلوبير في وضع صياغة كاملة لهذه القصص إلى المحاكمة التي تعرض لها بسبب رواية “مدام بوفاري”. ومنذ فلوبير أصبحت القصة القصيرة بالنسبة للروائيين ما يشبه استراحة المحارب، يلجؤون إليها بعد أن يفرغوا من عمل روائي ضخم، إذ كتب فلوبير قصة “أسطورة سان جوليان المضياف” بعد أن انتهى من كتابة رواية “بوفار وبيكوشي” سنة 1875. وبفضل “الحكايات الثلاث”، استطاع فلوبير أن يعطي القصة القصيرة ميزة جديدة وأسلوبا مميزا تمثل في الاشتغال على البعد النفسي الحميمي للشخصيات، بواسطة لغة محكمة ودقيقة تحتوي على صور قوية. وبلغت القصة القصيرة درجة عالية من التطور الفني بفضل “غي دي موباسان” الذي ألف ما يربو عن ثلاثمائة قصة قصيرة ضمتها ثماني عشرة مجموعة. ويوجد في مسار موباسان الأدبي ما مكنه من أن يصبح كاتبا مقتدرا، فقد التقى في باريس بعد أن استقر بها سنة 1878، بالكاتب الروسي “ايفان تورغنيف” الذي قرأ نصوصه الأولى ومده بعدة نصائح أدبية. كما اقترب من فلوبير الذي رعاه أدبيا وأدخله الصالونات الباريسة. كما تعرف على “إيميل زولا”، وعلى جماعة المدرسة الطبيعية والواقعية عموما، وأصبح أحدا منهم. ولما نشر سنة 1880 قصته الشهيرة “بول دو سويف”، امتدحها فلوبير واعتبرها بمثابة “عمل رفيع سيظل خالدا”. لكن في نفس العام، توفي فلوبير، فوجد موباسان نفسه أمام مصيره الأدبي، وكان عليه أن يشق دربه بمفرده. وبالفعل يوجد في “بول دو سزيف” كل مميزات وتوابل القصة القصيرة التي مكنت موباسان من أن يفرض نفسه على عرش القصة القصيرة. وأجمع النقاد على أن قصصه تعبر عن نفسية كاتب يعد بمثابة الرسام الأكبر للعبوس البشري. ويعتقد النقاد أن قصص موباسان تعد نموذجا متكاملا لفن القصة من حيث إنها أصبحت تحتوي على التدرج قبل بلوغ النهاية المفاجئة غير المنتظرة. إضافة إلى احتوائها على عناصر التشويق والمصادفة المعقولة والتصوير الدرامي. ومعه أصبحت القصة تجيء منفصلة وتعبر عن لحظة محددة، وغايتها اكتشاف حقائق الأمور الصغيرة العادية والمألوفة لدى الناس. وفي روسيا، ترك “غوغول” أثرا واضحا في فن كتابة القصة، إذ أصبحت قصته الشهيرة “المعطف” بمثابة البئر التي ارتوى منها كل كتاب روسيا. أما مواطنه “أنطون تشيكوف”، فقد أعطى القصة القصيرة دفعا لا يقل أهمية عن ذلك الذي منحه لها موباسان، بحيث أصبحت تقوم على أسلوب تأثيري يزخر بالتفاصيل الصغيرة التي من خلالها يتخذ الكاتب مواقف سلبية تجاه الحياة الاجتماعية والسياسية في عصره. وجعل تشيكوف من قصصه مرآة تعكس حياة ومعاناة البرجوازية الصغيرة في روسيا القيصرية خلال مرحلة حاسمة هي نهاية القرن التاسع عشر. وانعكست مهنة تشيكوف كطبيب في مجمل قصصه التي تصور مأساة وأحزان الموظف الصغير. ومن أشهر آثاره نجد قصة “القاعة رقم 6” التي كتب عنها “فلاديمير لينين” بعد أن فرغ من قراءتها سنة 1892 “لم أعد قادرا على البقاء في غرفتي (...) شعرت أنني موجود أنا بدوري في غرفة مماثلة”. وعرف القرن العشرين كتاب قصة كثيرين. إلا أن اسم “إرنست همنغواي” يبقى هو الاسم الأكثر شهرة في هذا المجال، بحيث استطاع أن يروض الكتابة القصصية ويزيدها فنية وجمالا. ومنذ أن استجاب لنصيحة “جيرترود شتاين” التي أخبرته ذات ليلة في صالونها الأدبي بباريس “كن مختصرا ودقيقا”، استطاع همنغواي كتابة قصص تمتاز بأسلوب بسيط وجمل قصيرة. وعلى خطى همنغواي أبدع “جيمس جويس” بفضل “أهالي دبلن” أسلوبا جديدا في فن القصة القصيرة، يعتمد أساسا على الحوار الداخلي. كما كان للفرنسي “جان بول سارتر” دور حاسم في جعل القصة القصيرة وعاءً فنيا للتعبير عن هموم فلسفية وجودية، تماما مثلما عبر “ألبير كامي” عن العبث في قصص “المنفى والملكوت”