عن العِرباض بنِ سارية رضي اللّه عنه قال: وَعَظَنا رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مَوعِظَةً، وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ، وذَرَفَتْ منها العُيونُ، فَقُلْنا: يا رسول اللّه، كأنَّها مَوعِظَةُ مُودِّعٍ، فأوْصِنا، قال: “أوصيكُمْ بتَقوى اللّه، والسَّمْعِ والطَّاعةِ، وإنْ تَأَمَّرَ عَليكُم عَبْدٌ، وإنَّه من يَعِشْ مِنْكُم بعدي فَسَيرى اختلافًا كَثيرًا، فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدينَ المهديِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمور، فإنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالةٌ” رواه أبو داود والتِّرمذي، وقال: حديثٌ حَسَنٌ صَحيح. كان النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم كثيرًا ما يَعِظُ أصحابَه في غير الخُطَبِ الرَّاتبة، كخطب الجمع والأعياد، وقد أمَرَه اللّه تعالى بذلك، فقال: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا}. وقوله: “ذرفت منها العيونُ ووَجِلت منها القلوب” هذان الوصفان بهما مدح اللّه المؤمنين عندَ سماع الذِّكر كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، وكان صلّى اللّه عليه وسلّم يتغيَّرُ حالُه عند الموعظة، كما قال جابر: “كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إذا خطبَ، وذكر السّاعةَ، اشتدَّ غضبه، وعلا صوتُه، واحمرَّت عيناه، كأنَّه منذرُ جيش يقول: صبَّحَكم ومسَّاكم” أخرجه مسلم. وقولهم: “يا رسول اللّه كأنَّها موعظةُ مودِّع، فأوصنا” يدلُّ على أنَّه كان صلّى اللّه عليه وسلّم قد أبلغَ في تلك الموعظة ما لم يبلغ في غيرها، فلذلك فَهِموا أنَّها موعظةُ مودِّعٍ. وقولهم “فأوصنا” يعنون وصيةً جامعةً كافية. وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: “أوصيكم بتقوى اللّه، والسَّمع والطَّاعة” فهاتان الكلمتان تجمعان سعادةَ الدُّنيا والآخرة، أمَّا التَّقوى، فهي كافلةٌ بسعادة الآخرة لمَن تمسَّك بها، وهي وصيةُ اللّه للأوَّلين والآخرين، وأمّا السَّمع والطّاعة لوُلاة أُمور المسلمين، ففيها سعادةُ الدُّنيا، وبها تنتظِمُ مصالحُ العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعةِ ربِّهم. وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: “وإنْ تأمَّرَ عليكم عبدٌ” ولاية العبيد عليكم. وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: “وإنّه مَن يعِشْ منكم بعدي، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنّواجذ” أمر عليه الصّلاة والسّلام في هذا الحديث عندَ الافتراق والاختلاف بالتمسُّك بسنَّته وسنَّةِ الخلفاء الرَّاشدين من بعده. وقوله “عَضُّوا عليها بالنّواجذ” كناية عن شدَّةِ التَّمسُّك بها، والنّواجذ: الأضراس. وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم “وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة” تحذيرٌ للأمّة مِنَ اتِّباعِ الأمورِ المحدَثَةِ المبتدعَةِ.