عن العِرْبَاض بن ساريةَ رضي اللّه عنه قال: وَعَظَنا رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مَوعِظَةً، وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ، وذَرَفَتْ منها العُيونُ، فَقُلْنا: يا رسول اللّه، كأنَّها مَوعِظَةُ مُودِّعٍ، فأوْصِنا، قال: “أوصيكُمْ بتَقوى اللّه، والسَّمْعِ والطَّاعةِ، وإنْ تَأَمَّرَ عَليكُم عَبْدٌ، وإنَّه من يَعِشْ مِنْكُم بعدي فَسَيرى اختلافًا كَثيرًا، فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدينَ المَهديِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمور، فإنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالةٌ” رواه أبو داود والتِّرمذي، وقال: حديث حسن صحيح. البلاغةُ في الموعظة مُستحسنةٌ؛ لأنَّها أقربُ إلى قَبولِ القلوب واستجلابها، والبلاغةُ: هي التَّوصُّل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإيصالها إلى قلوب السّامعين بأحسنِ صُورةٍ مِنَ الألفاظ الدَّالَّة عليها، وأفصحها وأحلاها للأسماع، وأوقعها في القلوب. وكان صلّى اللّه عليه وسلّم يقصّر خطبتها، ولا يُطيلُها، بل كان يُبلِغُ ويُوجِزُ. فقوله: “ذرفت منها العيونُ ووَجِلت منها القلوب” هذان الوصفان بهما مدح اللّه المؤمنين عندَ سماع الذِّكر كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الأنفال:2. وقولهم: “يا رسول اللّه كأنَّها موعظةُ مودِّع، فأوصنا” يدلُّ على أنَّه كان صلّى اللّه عليه وسلّم قد أبلغَ في تلك المَوعظة ما لم يبلغ في غيرها، فلذلك فَهِموا أنَّها موعظةُ مودِّعٍ. وقولهم: “فأوصِنا” أي وصيةً جامعةً كافية. وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم” “أوصيكُم بتَقوَى اللّه، والسَّمع والطَّاعة” كلمتان تجمعان سعادةَ الدُّنيا والآخرة، أمَّا التَّقوى، فهي كافلةٌ بسعادة الآخرة لمَن تمسَّك بها، وأمّا السَّمع والطّاعة لوُلاة أُمور المسلمين، ففيها سعادةُ الدُّنيا. وقوله: “وإنْ تأمَّرَ عليكم عبدٌ” وفي روايةٍ: “حبشي” أي ولاية العبيد عليهم. وقوله: “فمَن يعِشْ منكم بعدي، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدين المَهديِّين من بعدي” هذا إخبارٌ منه صلّى اللّه عليه وسلّم بما وقع في أُمَّته بعدَه من كثرة الاختلاف، وفيه أمر عندَ الافتراق والاختلاف بالتّمسُّك بسُنَّته وسنَّةِ الخلفاء الرَّاشدين من بعده. وقوله: “عَضُّوا عليها بالنّواجِذ” كناية عن شدَّةِ التَّمسُّك بها، والنّواجِذ: الأضراس. وقوله: “وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة” تحذيرٌ للأمّة مِنَ اتِّباعِ الأمورِ المُحدَثَةِ المبتدعَةِ.