تزامنت عودة الجدل حول موقع الجيش في الحياة السياسية والمدنية، مع صدور قرارات رئاسية هامة تتعلق بإنهاء مهام مسؤولين مدنيين وقادة في الجيش. هذه القرارات جاءت في سياق تغييرات غير مسبوقة مسَت جهاز المخابرات، كان أقواها على الإطلاق إعادة هيكلة “الدياراس” في سبتمبر الماضي، وتجريده من مصلحة الشرطة القضائية. المثير في كل هذه “الحركية الرئاسية” أن بوتفليقة مريض ومنسحب كليا، تقريبا، من المشهد العام، وعاجز عن التوجه إلى الجزائريين بخطاب منذ آخر خطاب بسطيف في ماي 2012.
هل يفعلها بوتفليقة ويضع “التوفيق” على لائحة التقاعد؟ قرارات “صاروخية” صادرة عن رئيس عاجز عن قراءة خطاب! تثير القرارات القوية التي اتخذها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الأيام الأخيرة الاستغراب. فالرجل لم يضرب بهذه القوة وهو في أوج عنفوانه، فكيف له أن يزيح من مناصب هامة عسكريين ومدنيين، بعضهم أشد الناس ولاء له، وهو عاجز عن نطق بضع كلمات نطقا سليما؟! لاحظ غالبية المهتمين بحالة الرئيس الصحية التحايل الذي يمارسه المشرفون على تسويق صورته في فترة مرضه، في محاولة للإيهام بأنه يؤدي مهامه كرئيس للجمهورية بصفة عادية. فالمسرحيات التي تقام والصور التي تركَّب (تفبرك) أثناء استقباله ضيوفا أجانب، تعكس عجزا مفضوحا عن إقناع الجزائريين بأن بوتفليقة بإمكانه أن يسيَر البلاد كأي رئيس يتمتع بكامل لياقته. الرجل واجه مشقة كبيرة في قراءة خطاب بمناسبة أداء اليمين الدستورية، واكتفى في النهاية بتلاوة حوالي 90 لفظة منه، وتلعثم في الكلام ولم يكن صوته مسموعا. وقد لاحظ جميع من كان في قصر المؤتمرات يومها، جزائريون وأجانب، حالة العجز هذه، فكيف لشخص بهذه المواصفات أن يستجمع قواه الذهنية والبدنية ليستوعب مثلا “الخطيئة الكبرى” التي يكون أمين عام الأفالان السابق قد ارتكبها، فيتوقف عند “ملف بلخادم” ليدرسه و«يعصر مخو” ليختار له عقوبة بكل ذلك العنف الذي فجَره فيه؟!! وقبل “حادثة” بلخادم، كان بوتفليقة قد اتخذ أقوى القرارات منذ إحالة رئيس أركان الجيش السابق الفريق محمد العماري على التقاعد في 2004، تتعلق بإحداث رجَّة غير مسبوقة في هياكل جهاز المخابرات، وإنهاء مهام ضباط معروفين أمثال اللواءين العطافي وطرطاق والعميد حسان والعقيد فوزي وغيرهم في مصالح أخرى. والأهم من ذلك أنه جرد الاستخبارات العسكرية من “عصاها الغليظة”، وهي الضبطية القضائية التي حققت في ملفات فساد كبيرة مس بعضها مقربين منه، وأهم ما أفضت إليه التحقيقات إصدار مذكرة دولية بالقبض على شكيب خليل. فهل يُعقل أن هذه القرارات “الصاروخية” التي يفترض أنها كانت باكورة دراسة عميقة لملفات هامة، اتخذها شخص عمره 77 سنة عاد لتوه من رحلة علاج دامت 80 يوما، ويعاني من تبعات الإصابة بجلطة في الدماغ تسببت له في شلل نصفي؟! هل فعلا أن الرئيس هو من اتخذ هذه القرارات بنفسه وبعد دراسة عميقة؟ أم أن هناك شخصا أو أشخاصا من أهل ثقته حضَّروها وجهزوها له بعد أن “وضعوه في الصورة”، فأصدر الضوء الأخضر لتنفيذها؟ إذا كانت القضية بهذه المواصفات والتفاصيل، فلن يكون في هذه الحالة إلا كبير مستشاريه شقيقه السعيد. لم يعد للرئيس بوتفليقة أشخاص يثق بهم، بعد أن هوى بكل الذين قربهم منه إلى أسفل السافلين، إلا شقيقه. ولا يوجد أي شك لدى مهتمين ب “الإعدام السياسي” الذي كان ضحيته بلخادم، بأن السعيد هو من يقف وراءه ولديه في ذلك سبب أساسي، هو أن وزير الدولة السابق أطلق حملة للإطاحة بعمار سعداني الذي “عيَّنه” السعيد أمينا عاما للأفالان. وأمام هذا “التسونامي” الذي أطلقه الرئيس ليجتاح مناصب المسؤولين، لم يبق على ما يبدو إلا القرار الأخير. وأي قرار: إحالة “التوفيق” على التقاعد! الجزائر: حميد يس
الطبقة السياسية منقسمة بخصوص دوره الجيش في الجزائر جزء من الحل ومن الأزمة بسبب طبيعة النظام، تجد المؤسسة العسكرية نفسها دائما مقحمة في الجدال السياسي. أحيانا يُطلب منها أن تتنحى جانبا وتترك أمر السياسة للساسة. وتارة أخرى تُدعى إلى تحمل مسؤولياتها التاريخية في إنهاء مرحلة الحكم الحالية. ومراتٍ يستدعيها البعض للقيام بمهمة الوساطة في إقناع الرئيس الحالي بتبني البديل الديمقراطي. لا يختلف اثنان في الجزائر على أن المؤسسة العسكرية هي العمود الفقري للبلاد، وأن انهيارها يعني مباشرة تلاشي خريطة في العالم اسمها الجزائر. هذا الشعور العميق لدى الجزائريين يجعلهم في كل مرة يَعضون على هذه المؤسسة التي يتشكل قوامها من أبنائهم وأقربائهم بالنواجذ. يرفضون أن تهدم أو تمس، رغم أن كثيرا منهم ليسوا راضين على نفوذ فوق الدستوري لبعض منتسبيها، يجعلهم يملكون ناصية القرار في البلاد دون وجه حق. ارتباط مصير الجزائريين للبقاء كأمة موحدة بالجيش في المقام الأول انعكس على تفكير نخبتهم السياسية. فلا أحد إلا فيما ندر يطعن في الجيش كمؤسسة، والكل يشدد على أهميتها في البقاء قوية ومتماسكة. لكن ذلك الإجماع الوطني على مكانة الجيش، سرعان ما يتلاشى في النقاش السياسي الذي يدور حاليا حول دوره في ما تراه المعارضة أزمة سياسية تحيق بالبلاد في الجزائر اليوم، تختلف المعارضة فيما ينبغي على الجيش فعله إزاء التطورات التي تتسارع في البلاد. رئيس الحكومة سابقا مولود حمروش تنطلق مقاربته من فكرة أن الجيش في الجزائر أصبح المؤسسة الوحيدة في البلاد التي بقيت صامدة في الجزائر، ويعتبر أنه “لا توجد أي فرصة لإرساء الديمقراطية دون مساهمة الجيش”، مستشهدا بتجربة دول أميركا اللاتينية. سيد أحمد غزالي، رئيس الحكومة السابق، يعتبر أيضا أن التغيير يستحيل “دون مشاركة الجيش كمؤسسة لأن مهمتها ضمان أمن البلاد”. لكنه بالمقابل يلوم القيادات المتورطة من الجيش في السياسة على احتكارها القرار، إذ يرى في واقع الأمر حتى الرئيس معينا. فغزالي أقرب بذلك أقرب إلى مفهوم أن “الجيش جزء من الحل وجزء من المشكلة”. وتنص أرضية الانتقال الديمقراطي في مبادئها على “تمدين النظام السياسي بإبعاد المؤسسة العسكرية والأمنية عن التجاذبات السياسية”. وتنسجم هذه المقاربة مع الأفكار التي يحملها المنتسبون إلى تنسيقية الانتقال الديمقراطي. إذ تنطلق الأزمة السياسية عند “الأرسيدي” من تضييع مشروع عبان رمضان في “أولوية السياسي على العسكري” في الثورة، ويتقارب في ذلك الإسلاميون الذين غالبا ما يرون في نافذي المؤسسة العسكرية حاجزا أمام وصولهم إلى الحكم بعد تجربتي الجزائر في 92 ومصر في عهد السيسي. أما المحامي والناشط السياسي مقران آيت العربي، فيعتقد أن دور الجيش “يتمثل في إقناع رئيس الجمهورية بضرورة التوصل إلى اتفاق عاجل بين السلطة والمعارضة، حول أرضية مشتركة يتبناها الجميع”. أما بن فليس، فاشتهر في حملته الانتخابية بتوجيه دعوة إلى الجيش لأن يبقى على الحياد. وقبل الرئاسيات بأيام، ظهرت نبرة قوية في المعارضة تطالب الجيش بالتدخل لإنهاء حكم بوتفليقة، في شكل دعوة وجهها المجاهد العضو في مجموعة 22، محمد مشاطي رحمه الله، قوبلت برد صريح من المؤسسة العسكرية يعيد التذكير بأنها لن تخرج عن مهامها الدستورية”! الجزائر: محمد سيدمو
حوار
رئيس جبهة التغيير عبد المجيد مناصرة “لا نريد دورا للجيش من وراء ستار”
ينسب إلى الرئيس بوتفليقة كافة القرارات القوية في مؤسستي الجيش والرئاسة، هل حقيقة هو صاحبها؟ بكل تأكيد هو صاحب تلك القرارات، لأنه ما يزال يمارس مهامه وإن لم يكن بنفس الوتيرة السابقة نظرا لحالته الصحية، لكنه مستمر مثلا في رئاسة مجلس الوزراء، ولا يمكن أن ننسب تلك القرارات إلا لشخصه رغم أنه يستشير فيها من يشاء، فالأهم أنه من غير الممكن إلقاء هذه الصلاحيات على دوائر أخرى. وحملة إنهاء المهام الأخيرة عادية جدا، شملت بالأساس مستشارين في الرئاسة لا يشتغلون أساسا، أما في المؤسسة العسكرية فأيضا هو صاحبها، وقد تكون باقتراح من رئيس أركان الجيش قايد صالح، وفي اعتقادي، هذه الممارسات لا تتوفر على أي مدلول سياسي آخر. الجيش يطالب بعدم إقحامه في السياسة، لكن الجدل بشأن هذا الموضوع مستمر، لماذا برأيكم؟ مناقشة دور الجيش في الحياة السياسية وفي تنظيم شؤون الدولة من صميم العمل السياسي، والتفكير في دوره ضمن التحول الديمقراطي موضوع لا يمكن القفز عليه، باعتباره نقاشا عميقا ومسؤولا. فدور الجيش في التحول الديمقراطي حاميا وضامنا للوصول إلى مرحلة الاستقرار السياسي، ثم لا يصبح له أي دور، ويعود إلى دوره الأصلي ويضبطه بناء على الدستور في حماية الدولة وأمنها. استمرار الجدل بخصوص دور الجيش، يعني أنه مؤسسة لا يمكن إبعادها من الحياة السياسية، فهو مرافق للتحول الديمقراطي، شريطة عدم استخدامه كذراع لأي تيّار أو حزب سياسي، وابتعاده عن الصراعات والتزام الحياد في الاستحقاقات الرئاسية. وهنا يجب التنبيه إلى أنّ من الضروري سحب حق المشاركة في التصويت في الانتخابات من الجيش، وأنه ليس له الحق في التصويت وليس معنيا به مادام اختار البدلة العسكرية، وهذا معناه أن الجيش لابد له أن يبتعد عن الفعل المدني، لكن ليس معناه في المقابل عدم لعبه دورا في الحياة السياسة، باعتبار أن الجيش لا يملك طابعا كغيره في معظم الدول، لأنه هو منشئ الدولة ما دام سليل جيش التحرير الوطني. يلاحظ اتفاق المعارضة على مرحلة انتقالية لكنها لم تتفق على شكل دور الجيش فيها.. لأن النقاش لم يطرح ضمن حوار، وهذه المسألة بالذات تتطلب حوارا وطنيا شاملا، لاسيما أنه بند أساسي ضمن فكرة التحول الديمقراطي، وهي أيضا مسألة تشبه تماما النقاش حول الاتفاق بين السلطة والمعارضة بشأن الانتقال الديمقراطي الذي لا يمكن أن يكون دون دور للسلطة. الواقع يفرض علينا وجوب التعامل مع السلطة المدنية والعسكرية عبر الاتفاق معها وليس من دونها ولا ضدها. أمّا مسألة الضمانات فتطرح ضمن بند لما يتوفر الحوار، لأن القضية المهمة جدا هي أن الجيش يجب أن يشرك في هذا الحوار ولا نريده أن يتصرف لوحده، ولا يكون دوره سريا ولا من وراء ستار، بل في إطار شفاف وتوافقي. الجزائر: حاوره خالد بودية
رئيس حزب جيل جديد جيلالي سفيان “بوتفليقة لا يعالج الملفات الثقيلة بل يعطي الضوء الأخضر”
هل تعتقد فعلا أن الرئيس بوتفليقة وراء القرارات الأخيرة المتعلقة بإنهاء مهام مسوؤلين في الدولة؟ هذه مسألة معقدة. والمعلوم لدى الجميع أن الرئيس ليس من يعالج الملفات الثقيلة في تسيير شؤون الدولة، ربما يعطي الضوء الأخضر فقط أو من طرف من حوله الذين استولوا على السلطة الحقيقية. أما البارز مثلا في حملة الإقالات الأخيرة في مؤسستي الجيش والرئاسة أنها تدخل ضمن ترتيبات خلافة بوتفليقة، وإنهاء مهام عبد العزيز بلخادم لا أعتقد أنه الأخير، فمسلسل إسقاط الرؤوس سيتواصل وسيمس الأشخاص الذين لهم طموح في الانتخابات الرئاسية، وقراءتي للصورة أن هناك نوعا من الفتنة في معسكر الرئيس، من خلال البحث عن خلافته والشروع في إقصاء من حولهم. عاد الجدل حول دور الجيش في الحياة السياسية وفي تنظيم شؤون الدولة، هل تعتبره نقاشا مفيدا أم رغبة في إلهاء الجزائريين بموضوع لم يعد قائما؟ لم نعد نفرّق إذا كان مفيدا أو غير مفيد، فالجيش هو المؤسسة الوحيدة في الجزائر التي بقيت متماسكة، لكن أصبحت آلة في يد السلطة المتركزة حول الرئيس. في السابق كانت المؤسسة العسكرية منبع القرارات والطبقة السياسية الرسمية تطبق تلك القرارات، لكن منذ العهدة الثالثة للرئيس بوتفليقة، القرار السياسي أو الحلقة السياسية الجيش أصبح دوره لتطبيق الإرادة السياسية، لذلك ننتظر بروز إرادة في قلب قيادة الجيش لقلب الموازين. والأسئلة المطروحة الآن هي: هل كل القيادات العسكرية أصبحت تحت طابع الرئيس أو من حوله؟ وهل هناك حس وطني داخل المؤسسة والقوة للتصدي لهذه المؤامرات؟ وعليه إن لم تتوفر هذه الأشياء، فمعناه ربما أن المؤسسة العسكرية أفلست من جانب القيم، مع أن المطلوب من الجيش إعادة القطار إلى السكة. يلاحظ انقسام بين الطبقة السياسية حول مرحلة انتقالية بمشاركة الجيش، وقطاع آخر يفضل رحيل النظام رئاسةً وقادةَ جيش. أي الطرفين طرحه أقوى في نظركم؟ بصراحة الملف لم يفتح للنقاش بهذه الصورة سواء على مستوى التنسيقية من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي أو عند أحزاب سياسية أخرى. فالمشكل الأساسي يكمن في السؤال التالي: هل نطلب من الجيش التدخل بقوة وإنهاء مهام الرئيس؟ أو حضورا قويا للمؤسسة العسكرية قادرا على ضمان الانتقال إلى مرحلة سياسية أخرى؟ الأكيد أن الطبقة السياسية لا تريد انقلابا، ومن يفكر بهذا المنطق لا يخرج عن دائرة الكلام الزائد. لكن عمليا وموضوعيا، لا يمكن الاستغناء عن المؤسسة العسكرية، ومن يعتقد غير هذا الطرح فهو غبي سياسيا، لذلك نطلب من الجيش إرادة حقيقية للتعاون مع الطبقة السياسية، وليس المخاطبة عبر عمود في مجلة الجيش، بل التطبيق على أرض الميدان. الجزائر: حاوره خالد بودية