صمت مطبق وتكتم يثير شهية الإعلام الأجنبي للتنبؤ بمصير الزعيم الغائب، ويفتح باب الشائعات لتربك المواطن. بيانات مقتضبة في الوقت بدل الضائع، لا تجيب عن التساؤلات الجوهرية، وفي الغالب التفاعل مع الأمر في صيغة رد الفعل فقط ل”دحر” الشائعات وتكذيب ما تورده وسائل الإعلام الأجنبية والفرنسية تحديدا، هي ”تقاليد” النظام الجزائري في تسيير ملف مرض المسؤول الأول في البلاد. الوضع المشوش الذي تمر به البلاد حاليا له جذور تعود إلى نحو 36 سنة، وتحديدا صيف وخريف سنة 1978، تاريخ وفاة الزعيم الراحل هواري بومدين التي لا تزال تثير التساؤلات إلى اليوم. وبغض النظر عن سبب وفاته وإن كان قد مات مسموما أو كانت وفاته قضاء وقدرا، كانت فترة مرضه أيضا في ”طي الكتمان” أدخلت الجزائريين المتعلقين بزعيمهم في دوامة من التساؤلات، بعد الغياب الطويل للرئيس والأخبار التي بدأ يتداولها الإعلام الفرنسي والمغربي وحتى المصري عن أسباب غيابه. موسكو.. صفقة سلاح أم رحلة علاج؟ وراح الإعلام الأجنبي يقدم الاحتمالات التي تقف وراء عدم ظهور بومدين، هل تمت تنحيته عن الحكم في انقلاب عسكري؟ هل سفره إلى الاتحاد السوفياتي كان من أجل التفاوض حول صفقة سلاح؟ قبل أن تبدأ الصحافة الفرنسية في إثارة موضوع مرضه وأنه متواجد في موسكو من أجل العلاج، ومن باريس أيضا جاء خبر آخر ليزيد من قلق الجزائريين ”بومدين مريض ووضعه قد يكون حرجا”. وتوالت الأنباء التي لم تنفها أو تؤكدها السلطات الجزائرية، هذه المرة من واشنطن تحدثت صحيفة عن أن الأطباء السوفيات لم يحددوا نوع مرض بومدين، ودخل بعدها إعلام الجارة الغربية على الخط، ليعلن عن أن ”حالة بومدين خطيرة جدا”، بعدها بفترة قصيرة أعلنت وكالة الأنباء الجزائرية عن طرد مراسل صحيفة ”لو رور” الفرنسية من الجزائر بعد خوضه في ملف مرض الرئيس. وطيلة هذه الفترة كانت السلطة تقدم المعلومات ب”التقطير”، تحدثت أولا عن زيارة خاصة إلى موسكو، وعندما بدأت التساؤلات قيل إنه في مصحة دون تقديم تفاصيل عن طبيعة متاعبه الصحية، إلى أن انعقد مؤتمر الصمود والتحدي الأول في بغداد الذي غاب عنه بومدين، ما رجح فرضية وضعه الصحي الحرج، وهناك في بغداد أعلن أول مرة على لسان عبد العزيز بوتفليقة، وزير الخارجية آنذاك، أن الرئيس مريض ومتواجد في موسكو للعلاج، ولم يعد هناك بعدها مجال للنفي إلى الإعلان عن وفاة الرئيس. سري للغاية ولم يختلف الأمر مع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، فترة مرضه منذ وردت المعلومات الأولى حولها أرضية خصبة للتأويلات، وحتى ولو أن النظام سجل محاولة ل”كسر” طابو مرض الرئيس، بالإعلان عن تعرضه لمتاعب صحية. وكان طبيب أمراض القلب، رشيد بوغربال، أول من خاض في مرض الرئيس، عندما قال في بيان أوردته وكالة الأنباء الجزائرية في 27 أفريل 2013 ”إن الرئيس تعرض في منتصف النهار و30 دقيقة من نفس اليوم، لنوبة إقفارية عابرة لم تترك آثارا”، وأوضح بأن ”الفحوصات الأولية قد بوشرت وينبغي أن يخضع فخامة رئيس الجمهورية للراحة لمواصلة فحوصاته”، مشيرا إلى أن ”حالته الصحية لا تبعث على القلق وقد استدعت نقله إلى فال دوغراس بباريس”. ثم غابت الأخبار ”الرسمية” عن صحة الرئيس إلا عن الإعلام المحلي والعالمي تحديدا، الذي راح يتحدث عن أن وضع الرئيس حرج ومعقد، ونقله إلى باريس دليل على خطورة مرضه، لتردّ السلطة ببيان وجهه الرئيس المريض من مستشفاه الباريسي، يطمئن فيه الجزائريين على صحته من خلال تهنئة العمال بعيدهم، تلت البيان رسالة موجهة إلى الصحافة في الثاني من شهر ماي 2013 بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة. بعدها بأسبوع، في 7 ماي، أصدرت رئاسة الجمهورية بيانا تؤكد فيه أن رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة الذي عرفت حالته الصحية ”تحسنا ملحوظا”، يقضي فترة من الراحة كما نصحه أطباؤه. وفي هذه الفترة، تولى الوزير الأول عبد المالك سلال مهمة طمأنة الجزائريين على صحة رئيسهم، وصرح من ولاية الأغواط بأن رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة يوجد في ”صحة جيدة” وأنه يتابع باستمرار الملفات والقضايا الوطنية”. الإشاعة.. هل مات الرئيس؟ وعاد الحديث مجددا في الصحافة العالمية، وخاصة الفرنسية والمغربية، عن تطورات الوضع الصحي للرئيس، وتحدثت بعض المواقع عن أن وضعه الصحي حرج وتحدثت حتى عن موته إكلينيكيا. وفي هذا الوقت الحرج، في 12 جوان، جاءت نشرة صحية خاصة برئيس الجمهورية موقّعة من طرف الأطباء المرافقين له، الأستاذان صحراوي محسن ومترف مرزاق، أكدا أن الرئيس بوتفليقة يقضي فترة علاج وإعادة تأهيل وظيفي بفرنسا ”لتعزيز التطور الإيجابي” لحالته الصحية. وأوضحت بأنه ”تم إثر هذه الفحوصات تقديم العلاج المناسب قبل نقله إلى المستشفى الفرنسي ”فال دوغراس” العسكري، لإجراء فحوصات إضافية أوصى أطباؤه إثرها بخضوعه لفترة علاج وإعادة تأهيل وظيفي بمؤسسة ”ليزانفاليد”، بغية تعزيز التطور الإيجابي لحالته الصحية”. وقبلها كان هناك تضارب في الأنباء حول المكان الذي يقضي فيه بوتفليقة فترة النقاهة والمدة التي ستستغرقها، وأوردت مواقع إخبارية فرنسية أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة غادر مستشفى ”فال دوغراس” ونقل إلى مركز للراحة مخصص لكبار الشخصيات والمعطوبين في ضواحي باريس. ونقلت صحيفة ”أوبينيون” أن بوتفليقة غادر ”فال دوغراس” متوجها إلى إقامة خاصة بكبار القيادات العسكرية بباريس لقضاء ما تبقى من فترة نقاهته. وأكدت صحيفة ”لوباريزيان” المقربة من دوائر الحكم في فرنسا، لاحقا هذا الخبر، وأعلنت أن الرئيس بوتفليقة غادر بالفعل المستشفى، ونقل إلى مركز للراحة. وكان على الجزائريين انتظار أكثر من 46 يوما ليروا رئيسهم، بعد أن نقل التلفزيون الرسمي صور الرئيس بوتفليقة وهو يتجاذب أطراف الحديث مع كل من الوزير الأول عبد المالك سلال ورئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق أحمد ڤايد صالح، خلال الاستقبال الذي خصهما به. وكانت صورا صامتة لم تطمئن طبعا الجزائريين. أين الرئيس؟ يعود الرئيس بعد نحو 80 يوما إلى الجزائر على كرسي متحرك، ودون الحديث عن العهدة الرابعة وترشحه للانتخابات واحتفاظه بمنصب المسؤول الأول عن البلاد، تواصلت التأويلات حول وضعه الصحي كلما طالت فترة غيابه، ليكون الرد دائما على هذه التأويلات بظهور ”خاطف” للرئيس وهو يستقبل شخصية وطنية أو أجنبية، مع تركيز على حركة ”يديه” مادام وقوفه غير ممكن. وعادت التساؤلات حول وضعه الصحي بعد غيابه عن صلاة عيد الأضحى، وتحدثت بعض المواقع الإلكترونية المغربية حتى عن احتمال وفاته، فيما أشارت أخرى إلى نقله إلى سويسرا للعلاج وأن وضعه حرج، خاصة أنه لم تظهر أي صور أو نشاط للرئيس منذ ترؤسه في 21 سبتمبر الماضي اجتماع المجلس الأعلى للأمن الوطني. لتأتي الإجابة من الرئاسة في الثامن من الشهر الجاري، بنقل صور للرئيس وهو يستقبل الدبلوماسي الجزائري ووزير الخارجية الأسبق لخضر الإبراهيمي الذي شارك في إحياء اليوم الوطني للدبلوماسية الجزائرية المنظم من قبل وزارة الخارجية. لكن لا يبدو أن مخدر ”الاستقبالات المطمئنة” سيدوم طويلا، لأن التساؤلات والتأويلات ستعود مجددا بعد فترة ما إن يغيب الرئيس، فيما يمكننا التنبؤ بطريقة ”دحرها” فالسوابق كثيرة. أستاذ الإعلام بجامعة الجزائر الدكتور محمد لعقاب ل”الخبر” ”من حق الشعب الاطلاع على الوضع الصحي لأي مسؤول” يعتقد الدكتور محمد لعقاب، أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر 3، أننا نعيش في الجزائر حالة إفلاس حقيقي في الاتصال الحكومي، ويعتبر أن ”التكتم” أرضية خصبة للإشاعة والدعاية المغرضة، مبرزا أنه من حق الشعب الاطلاع على الوضع الصحي لأي مسؤول أكان رئيسا أو زيرا أو جنرالا. منذ الوعكة الصحية التي ألمّت بالرئيس، اكتفت السلطة بالحد الأدنى في تقديم المعلومة حول مرضه وتطورات علاجه، ما تقييمكم لهذا ”الشح” في المعلومة الرسمية؟ بغض النظر عن مرض الرئيس، نحن نعيش حالة إفلاس في الاتصال الحكومي وهذه وضعية خطيرة، فمن حق الشعب والإعلام الاطلاع على ما يجري في الحكومة ومن واجب الحكومة أن تبلغ وتعطي المواطنين المعلومات اللازمة حتى ولو تعلق الأمر بمرض رئيس أو وزير أو جنرال، فالمرض قضاء وقدر وكلنا عرضة له. لكن ما نعيشه في الجزائر هو نقص فادح في الاتصال، من الحكومة إلى رئاسة الجمهورية وكل الوزراء، إلا إذا استثنينا وزارة السكن والعمران، فمعظم الوزارات لا تملك ناطقا رسميا، وبالتالي المعلومة الخاصة بالحكومة تستقى من المقاهي و”الحمامات” والشبكات الاجتماعية والإعلام الأجنبي. وماذا يترتب عن غياب الاتصال؟ عندما يكون هناك نقص في سيولة المعلومة مع انعدام الاتصال بين الحكومة والشعب، تولد الإشاعة التي تكون نتيجتها الفوضى والفتنة داخل المجتمع. لكن غريب أن يحدث هذا ونعيش غياب الاتصال والمعلومة في مجتمع يفترض أنه مجتمع الإعلام والمعلومات والمعرفة والذكاء الإنساني والعقل الخلاق، فهذا المجتمع يتميز عن المجتمعات السابقة (الزراعية والصناعية) بخاصية سرعة الاتصال وفعاليته بين الحكام والشعب. فحام هذا العصر هم أول جيل من المسؤولين في التاريخ بمقدورهم أن يخاطبوا الشعب في نفس الوقت والسرعة اللازمة، عبر القنوات التلفزيونية، البريد الإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائط الحديثة. كما أن المواطنين في هذا العصر هم أول جيل من المواطنين يمكنهم أن يخاطبوا الرئيس والوزير بشكل مباشر دون الحاجة إلى ممثلي الشعب. كيف يفترض أن يتم التعامل مع أخبار مرض الرئيس ”أخلاقيا”؟ من حق الناس الاطلاع على وضعية المسؤولين المدنية والصحية، ففي الدول الغربية التي سبقتنا في مجال الديمقراطية، المسؤول فيها ليست له حياة خاصة، كل تفاصيل حياته مهما كانت تهم الرأي العام، ويتم هذا بطريقة دورية. ففي فرنسا مثلا نلاحظ أن وزارة الخارجية لديها ناطق رسمي يقدم للإعلام الأجنبي ثلاث ندوات أسبوعيا، وندوة أخرى على الأنترنت. وفي بريطانيا لديهم ناطقون رسميون يتكلمون حتى اللغة العربية، مهمتهم توجيه الرأي العام الدولي والمحلي. نفس الأمر في الولاياتالمتحدةالأمريكية، هناك محطات إعلامية لمسؤولين عسكريين وسياسيين يقدمون يوميا المعلومات عن الوضع في البلاد للشعب، وفي حال الأزمات تقدم تطورات الوضع في ندوة صحفية كل ساعتين. وما الغاية من كل هذه الليونة في تقديم المعلومة؟ هذا الحرص في الدول الغربية على إعطاء المواطنين المعلومة يجعل المواطن في منأى عن الدعاية المغرضة، لكن في حال العكس يكون المواطن عرضة للتلاعب بأي معلومة.