أوجد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم السلطة التّنفيذية، فكان يُجْبِي الصّدقات، ويقود المعارك ويوزّع الغنائم ويولّي الأمراء. ثمّ أوجد السلطة القضائية، فكان يحكم بين المتخاصمين وكان حكمه ملزمًا، وأمّا السلطة التّشريعية الّتي تسُنّ للنّاس قواعد السّلوك في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.. فقد استطاع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أن يفرضها على النّاس فرضًا بفضل سُنّتِه الفعلية والقولية والتّقريرية في سائر مجالات الحياة. وهكذا أخضع الرّسول الكريم النّاس لسلطة عامة، لا عهد لهم بها. وهذه السلطة العامة هي ما نُسمّيها اليوم بالحكومة.. ولولاها لبقيت العرب قبائل متناحرة. ثمّ عزّز هذه الحكومة الفذّة الفتية ”بمجلس الشّورى” الّذي يتألّف من أحد عشر صحابيًا وهم: حمزة وجعفر وأبوبكر وعمر وعليّ وابن مسعود وعمّار وحُذيفة وأبو ذر والمِقداد وبلال رضوان الله عليهم أجمعين.. وكان الرّسول صلّى الله عليه وسلّم شديد الحِرص على مشورة أصحابه إلّا في أمر فصل فيه الوَحي فصلًا نهائيًا.. وذلك لا للاهتداء برأيهم فله عليه الصّلاة والسّلام من رأيه الملهم ما يغنيه عنهم، هذا في الحقيقة، ولكنّه يريد أن يدرّبَهم ويعلّمهم فضل الشّورى امتثالًا لأمره تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِر لَهُم وَشَاوِرْهُم فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللهِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} آل عمران:159. هكذا بدأ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حياته في الحكم، كان لا يولي أمور المسلمين إلّا الأكفاء القادرين الّذين يجمعون إلى الأمانة، المعرفة والقوّة. وقد سأله يومَا أبو ذر رضي الله عنه أن يولّيه إمارة وكان مكانه من الرّسول مكانه فأجابه: ”يا أبا ذر إنّك ضعيف وإنّها أمانة وإنّها يوم القيامة خِزْيٌّ وندامة إلّا مَن أخذها بحَقِّها وأدَّى الّذي عليه فيها”. وقد روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: ”مَن ولّى من أمر المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا محاباة، فعليه لعنة الله”.