إنّ من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل اختلافهم في فروع الشّريعة لا في أصولها، والعلماء ورثة الأنبياء عليهم أفضل الصّلاة وأزكى التّسليم يؤخذ منهم ما وافق الكتاب والسنّة ويردّ منهم ما خالف هذين الأصلين العظيمين الباقيين الصّالحين لكلّ زمان ومكان. ثمّ إنّ من أسباب خلاف العلماء في فتاويهم واجتهاداتهم عديدة ومتنوّعة قد ذكرناها فيما سبق، ولا بأس أن نعيدها مجملة، منها اختلاف المجتمع والبيئة ممّا يقتضي اختلاف الأعراف والعادات. وقد جعل فقه الواقع ومعرفة النّاس السّائلين شرطًا يجب توفّره في المجتهد والمفتي وقدوتنا في ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} الأحزاب:21، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يوصي كلّ فرد حسب طاقته وحاله. ففي سنن الترمذي عن عبد الله بن يسر رضي الله عنه وهو شيخ كبير مسنّ قال: أتيتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلتُ: يا رسول الله إنّ شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأوصني، قال: ”لا يزال لسانك رطبًا من ذِكر الله تعالى” أخرجه الترمذي وابن ماجه وهو صحيح، وهذا لأنّ الرجل يستطيع أن يذكر الله تعالى ولا يطيق عبادة أخرى. وجاءه رجل آخر قال: يا رسول الله أوصني، قال: ”لا تغضب”، قال: زدني، قال: ”لا تغضب”، قال: زدني، قال: ”لا تغضب” أخرجه البخاري. وتبيّن أنّ ذلك الرجل كان يهلك عند الغضب فأوصاه صلّى الله عليه وسلّم بما يناسبه. فسؤالهم كان واحدًا ”أوصني”، لكن أجوبته صلّى الله عليه وسلّم اختلفت حسب أحوالهم. ومن الغريب أن يفتي شامي أو حجازي جزائريًا في مسألة خاصة ببلده هو لا يعي منها إلاّ القليل، ومن تلك الأسباب أن يكون الدليل لم يبلغ المخالف، وقد وقع هذا في الصّحابة ومن بعدهم. أو أن يكون الحديث قد بلغه لكنّه لم يثق في ناقله ورأى أنّه مخالف لما هو أقوى منه أو بلغه، لكنّه نسيه وجلّ مَن لا ينسى أو بلغه وفهم منه خلال المراد كما حدث للصّحابة حين خروجهم إلى بني قريظة في مسألة صلاة العصر، وغير ذلك من الأسباب الشّرعية الّتي أدّت إلى اختلاف العلماء في فروع الشّريعة وأحكامها لا في أصولها كما أسلفنا. وموقف النّاس من اختلاف العلماء والمفتين نقسّمهم إلى ثلاثة أقسام: عالم رزقه الله علمًا وفهمًا له الحقّ في الاجتهاد. وطالب علم عنده من العلم ما يفهم به الدّليل والحكم المستنبط منه لكنّه لم يبلغ درجة العالم المتبحّر، فلا حرج عليه في اتّباع الدّليل، لكن لابدّ من الرّجوع إلى أهل العلم لأنّه قد يخطئ وهو لا يدري، فليحذر طلبة العلم من التوسّع في هذا الباب، فالتوسّع فيه قد فتح ويفتح أبواب الشّيطان يبُثّ من خلالها الفتنة والفرقة، حيث تجده طالبًا أو طويلبًا، إذا استحقّ فعلاً هذا اللّقب، لا يعلم من الدِّين إلاّ القليل، تجده يفسّق النّاس الّذين اتّبعوا عالمًا مخالفًا لما ذهب إليه ويرمي عليهم وابلاً من الألقاب الّتي لا تليق بمَن شهد أنّه لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدًا رسول الله، ولو رجع إلى أهل العلم لنصحوه ولردّوه عن ذلك الفعل الخطأ، خاصة إن تعلَّق الأمر بمسألة خلافية لا يستطيع أحد أن يجزم أنّ الحقّ معه وأنّ مخالفه على باطل. والصّنف الثالث من النّاس وهم العوام الّذين لا يعلمون شيئًا من الدّليل أو الحكم أو طريقة استنباط الحكم من الدّليل أو أوجه الدَّلالة، فهؤلاء يجب عليهم أن يسألوا أهل العلم لقوله سبحانه وتعالى: {فَاسْألُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} الأنبياء:07، فالواجب عليهم أن يسألوا عالمًا من علماء بلدهم يثقون في علمه ودينه غير متّبعين للهوى.