إنّ من رحمة اللّه تعالى بعباده أن جعل اختلافهم في فروع الشّريعة لا في أصولها رحمة. والعلماء ورثة الأنبياء، عليهم أفضل الصّلاة وأزكى التّسليم، يُؤخَذ منهم ما وافق الكتاب والسُّنَّة، ويُردّ عنهم ما خالف هذين الأصلين العظيمين الباقيين الصّالحين والمصلحيْن لكلّ زمان ومكان. ثمّ إنّ أسباب خلاف العلماء في فتاويهم واجتهاداتهم عديدة ومتنوّعة، منها اختلاف أحوال وأعراف المجتمع والبيئة والعادات، ومنها اختلاف أحوال السّائلين وطباعهم. ومثال عن هذا وصيّة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم للرجلين اللّذيْن طلبا الوصية منه صلّى اللّه عليه وسلّم وصيتين مختلفتين نظرًا لاختلاف وضعهما، ففي سنن الترمذي عن عبد اللّه بن يسر رضي اللّه عنه وهو شيخ كبير مسنٌّ، قال: أتيتُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول اللّه إنّ شرائع الإسلام قد كثُرَت عليَّ فأوصني، قال: ”لا يزال لسانُك رَطْبًا بِذِكر اللّه تعالى”، وجاءه رجل آخر قال: يا رسول اللّه أوصني، قال: ”لا تَغضَب”، قال: زِدني، قال: ”لا تَغضب”، قال: زدني، قال: ”لا تَغضَب”، وتبيّن أنّ ذلك الرّجل كان يهلك عند الغضب فأوصاه بما يُناسبه. فسؤالهما كان واحدًا ”أوصني”، لكن جوابه صلّى اللّه عليه وسلّم اختلف حسب الحال. ومن أسباب اختلاف العلماء أن يكون الحديث قد بلغه لمن لم يثِق في ناقله ورأى أنّه مخالف لما هو أقوى منه أو بلغه نسيه، أو بلغه وفهم منه خلاف المراد كما حدث للصّحابة حين خروجهم إلى بني قُريضة في مسألة صلاة العصر. وغير ذلك من الأسباب الشّرعية الّتي أدّت إلى اختلاف العلماء في فروع الشّريعة. وموقف النّاس من اختلاف العلماء والمفتين يقسم إلى ثلاثة أقسام: عالم رزقه اللّه عِلمًا وفهمًا له الحقّ في الاجتهاد. وطالب علم عنده من العلم ما يَفهم به الدّليل والحكمَ المستنبَط منه، لكنّه لم يبلغ درجة العالم المتبَحِّر، فلا حرج عليه في اتّباع الدّليل، لكن لابدّ من الرجوع إلى أهل العلم لأنّه قد يخطئ. والقسم الثالث من النّاس وهم العوام الّذين لا يعلمون شيئًا من الدّليل أو الحكم أو طريقة استنباط الحكم من الدّليل أو وجه الدّلالة، فهؤلاء يجب عليهم أن يسألوا أهل العلم ويتّبعوا مذهب بلدهم. واللّه أعلم.