عندما دخلنا محلا لبيع الخبز والحلويات ب17 شارع بن مرزوق الخطيب بباب الوادي في العاصمة، رفقة رئيس فرقة حماية المستهلك وقمع الغش بمديرية التجارة، العياشي دهار، انبهرنا بواجهة المحل المزينة بما لذ وطاب من الحلويات التقليدية والعصرية، واستقبال صاحبه الزبائن بابتسامة عريضة، لكن ما خفي أعظم. فهذه الصورة الجميلة سرعان ما تلاشت ونحن ننزل إلى قبو المحل، حيث كانت رائحة الرطوبة والصراصير والأوساخ ديكورا لمكان تصنع فيه حلويات يعشق الجزائريون أكلها في رمضان. زيارتنا لأول محل بهذا الحي الشعبي جعلتنا نصاب بحالة من الغثيان، والأمر كان أصعب على مرافقتنا المتربصة بمديرية التجارة برتبة مفتشة رئيسية، إيمان صيد، خاصة عندما شدنا مشهد آلة العجين مغطاة بكيس بلاستيكي غير نظيف، لا يصلح إلا للقمامة. اقترب العياشي منه لمعرفة ما يوجد أسفله، فلم يكن إلا قلب اللوز، حينها ثار مرافقنا غاضبا موجها ملاحظته لصاحب المحل، هل تستعمل هذا الكيس في بيتك؟ فرد هذا الأخير بابتسامة عرضية، قبل أن يتدارك الخطأ بمناداته لطفل لا يتعدى سنه 14 سنة، يرتدي مئزرا غطى السواد بياضه بسبب الدهون والفرينة، لجلب ورق ناصع البياض استعمله عوض الكيس البلاستيكي. لم يدرك صاحب المخبزة أنه ارتكب جنحة وليس مخالفة هذه المرة، بتشغيل قاصر يعمل تحت درجة حرارة عالية ومعرض للخطر، يستفسر العياشي الأمر من الخباز، فرد مندفعا “توسط لي والده، وهو صديق لي، ليساعدني في المخبزة، حتى لا ينحرف ويدخل عالم المخدرات والمهلوسات”. “اللوز إيفلي والڤرلو يديفلي” لكن أول شيء لفت انتباهنا في المحل، هو العدد الهائل للصراصير التي كانت “تصول وتجول” في كل زاوية ومكان توضع فيه مستلزمات الحلويات، لاسيما طاولة المطبخ، حيث وضع كيس بلاستيكي ما إن سحبه مفتش المراقبة حتى خرج من أسفلة “جيش من الصراصير”. ارتفع “تارمومتر” الغضب عند العياشي، فالتفت إلى صاحب المخبزة، مستفسرا عن محتوى الكيس، فأجاب قائلا: “اللوز إيفلي” (شرائح اللوز)، ليقاطعه العياشي مستهزئا “والڤرلو يديفلي”، وهي العبارة التي خففت على الجميع ضغط يوم حار ومتعب، بما في ذلك صاحب المخبزة الذي همس في أذن “الكنترول” متوسلا “أمي مريضة جدا، ما جعلني أهمل نظافة المحل، لكنني أعدك بتدارك كل هذه الأخطاء”. فُتحت “شهية” العياشي لتفتيش قبو المحل، ليضع يده هذه المرة على مستلزمات الحلويات، أغلبها عبارة عن ملونات غذائية محضرة وموضوعة داخل دلاء وقارورات بلاستيكية وسخة، لا تحمل تاريخ ونهاية الاستعمال، بل ولا اسم المنتوج، غير أن ما أثار استغراب مفتش الرقابة وجود مادة الشب، لكن صاحب المخبزة وببرودة أعصاب قال “ما تقلقش روحك، كلش جديد، أمي وزوجتي وأولادي يأكلون من المخبزة. أما الشب فيستعمل في تحضير الشاربات”. توالت المشاهد “المقززة” لقبو هذا المحل، والنهاية كانت بالأفران التي بمجرد أن فتح أبوابها المفتش المراقبة، صدم من هول ما رآه، فأسقفها مهترئة وغير نظيفة، الأمر الذي عجل بمغادرة المحل بعد تحرير مخالفة لصاحب المخبزة، المطالب بالتقرب من مصلحة حماية المستهلك وقمع الغش لمعرفة الإجراءات المتخذة ضده. هذا الأخير، وبابتسامة عريضة دائما، ودّعنا على الحكمة المأثورة “وعد الحر دين عليه،” لتكون وجهتنا هذه المرة محلا لبيع اللحوم المجمدة، كان صاحبه غائبا في ذلك اليوم، عندما وجه له العياشي ملاحظتين الأولى تتعلق ببيع اللحم المجمد مفروما، والأخرى بالتخزين العشوائي للمواد الغذائية، فالبازلاء كانت مع اللحوم المجمدة في مبرد، بينما كانت أهم ملاحظة هي وجود المرحاض بمحاذاة مكان البيع، مع غياب التهوية. وبالمكان المخصص لتخزين اللحوم، عثر العياشي على كيس بلاستيكي يحتوي على السمك، ابتسم قبل أن يقول للبائع “هذا محل خاص ببيع اللحوم المجمدة أو الأسماك؟”، فرد مرتبكا “اضطررت لوضعه داخل المبرد لأنني لا أملك ثلاجة في البيت”.. طريقة كلام هذا البائع أثارت الشفقة، خاصة عندما وجدنا حوالي 1 كلغ من اللحم في كيس بلاستكي بالمبرد، لا يحمل تاريخ ونهاية الاستهلاك، أخبرنا أنه حصل عليه في إطار قفة رمضان. أي شاربات؟ ممارسة نشاط خارج النشاط المقيد بالسجل التجاري، هو ما ينطبق على محل “فاستفود” يقع ب20 شارع القنصلية بالحي الشعبي نفسه، حوله صاحبه لبيع الشاربات وأي شاربات؟ فبائعو هذا العصير، حسب العياشي، يوهمون الزبائن بأنه عصير ليمون، بينما لا يحتوي في الحقيقة إلا على حمض السيتريك وماء وقطع صغيرة من الليمون يتعمد وضعها في أكياس الشاربات لجلب الزبائن، وهو ما وقفنا عليه داخل هذا المحل، حيث كان قصّر ملتفين حول إناء كبير، لملء أكياس بلاستيكية بالشاربات، يتم عرضها للبيع على طاولة ببوابة المحل، بعيدا عن أدنى معايير النظافة، فالأيدي عاريتان والأظافر طويلة ومتسخة. تعمد العياشي الاقتراب من الزبائن، وبالصدفة كانت من بينهم طبيبتان إحداهما قالت إنها تدرك أن حمض “السيتريك” من بين محتويات الشاربات، بينما لم تقتنع مرافقتها بذلك، حيث اشترت كيسين، وهي تقول للعياشي مستسلمة لدوخة الصيام “هذا فيتامين c”. تواصلت لعبة القط والفأر بين التجار وفرقة قمع الغش، في يوم حار وشاق، لكن نهايتها رفعت معنويات العياشي وأنسته “الكوارث” التي عاينها، عندما دخل محل البيروني لبيع الحلويات السورية في شارع القنصلية، صاحبه جزائري الجنسية عاد للعيش مؤخرا في الجزائر بسبب الوضع الأمني في سوريا. فنظافة وتنظيم المحل ثقافة قبل أن تكون سلوكا، حسب صاحب المحل السيد محمود البيروني.