هل يجب الالتزام بالمذهب المالكي في هذا الوقت الذي تشهد فيه الفتوى فوضى، والعالم الإسلامي يعيش الفتن؟ إنّ من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل اختلافهم في فروع الشّريعة لا في أصولها، والعلماءُ ورثة الأنبياء، يؤخَذ منهم ما وافق الكتاب والسّنّة ويُردُّ منهم ما خالف هذين الأصلين العظيمين الباقيين الصالحين والمُصلحين لكلّ زمان ومكان. ثمّ إنّ أسباب خلاف العلماء في فتاويهم واجتهاداتهم عديدة ومتنوّعة، منها اختلاف المجتمعات والبيئات ممّا يقتضي اختلاف الأعراف والعادات. وقد اعتَبر أهل العلم فقهَ الواقع ومعرفة أحوال السّائلين شرطًا يجب توفّره في المفتي، وقدوتنا في ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان يَنصح ويُوصي كلّ فرد حسب طاقته وحالته. ففي سنن الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو شيخ كبير مُسنٌ قال: أتيتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلتُ: يا رسول الله إنّ شرائع الإسلام قد كثُرت عليّ فأوصني، قال: “لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله تعالى”. وهذا لأنّ الرجل يستطيع أن يذكر اللهَ تعالى ولا يطيق عبادةً أخرى. وجاءه رجل آخر قال: يا رسول الله أوصني، قال: “لا تغضب”، قال: زدني، قال: “لا تغضب”، قال: زدني، قال: “لا تغضب” أخرجه البخاري. وتبيَّن أنّ ذلك الرّجل كان يهلك عند الغضب فأوصاه صلّى الله عليه وسلّم بما يناسبه. فمسألتُهما كانت واحدة، لكن جوابه صلّى الله عليه وسلّم اختلف حسب حالهما. ومن أسباب اختلاف الفقهاء أن يكون الدليل لم يَبلُغ المخالف، وقد وقع هذا في الصّحابة ومن بعدهم. أو أن يكون الحديث قد بلغه لكنّه لم يثِق في ناقِله ورأى أنّه مخالف لما هو أقوى منه أو بلغَه لكنّه نسيَه، أو بلغَه وفهم منه خلاف المراد كما حَدَث للصّحابة حين خروجهم إلى بني قُريظة في مسألة صلاة العصر. وغير ذلك من الأسباب الشرعيّة التي أدّت إلى اختلاف العلماء في فروع الشريعة وأحكامها. وموقف الناس من اختلاف العلماء يقسّمهم إلى ثلاثة أقسام: الأول: عالم رزقه الله علمًا وفهمًا وتتوفّر فيه المؤهّلات التي تُبلِغه درجة الاجتهاد، فهذا له الحق في الاجتهاد. والثاني: طالِب علم عنده من العلم ما يُفهَم به الدليل والحكم المستنبَط منه، لكنّه لم يبلغ درجة العالِم المتبحِّر، فلا حرج عليه في اتّباع الدّليل، لكن مع الرّجوع إلى أهل العلم. والصّنف الثالث من النّاس وهم العوام الّذين لا يعلمون شيئًا من الدّليل أو الحكم أو طريقة استنباط الحكم من الدّليل أو وجه الدَّلالة، فهؤلاء يجب أن يسألوا أهلَ العِلم في بلدهم. والسّائل تابع لمَن يسأله فمذهبه مذهب مَن أفتاه، واختيار منهج شيخ في الاستنباط واتّباعِه في مذهبه لا يضرّ، والشعب المغاربي والمراد المغرب العربي اختار منهج الإمام مالك وحافَظ على وحدته وعلماؤه تبنّوا هذا الاختيار واتّخذوا مؤلّفات وشروحاتها كمرجعية في فتاواهم، وهذا معمول به حتّى عند جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومن هذه الكتب المختارة: مواهب الجليل للحطّاب، منح الجليل لعُليش، خليل الّذي يُسمّى عندنا سيّدي خليل وشروحه المتعدّدة، ولعلّ من آخرها ما ألّفه الشّيخ محمّد باي بلعالم رحمه الله حول التّدليل على خليل، وهذا ليس تعصّبًا وردًّا لمناهج غير مالك ولكن حفاظًا على وحدة المنهج في الاستنباط وبيان الأحكام مع أدلّتها التّفصيلية لدعم وحدة تماسك الأمّة، ومتى توحّدت مصادر الفتوى اتّحدت الفتوى من أيّ جهة صدرت. والله أعلَم.