كلاهما بالجمال ذاته، مشرق الشمس ومغربها، لذلك فأنا الروح المتمددة ما بين جغرافيتين من العشق، أوّليْ في الشرق وأوّلي الآخر في الجهة المقابلة لهذا الوطن الذي لم نعد نعرفه جميعاً. هل فيكم أحد يستطيع اليوم أن يصف لي وطنه؟ هل من رسام يقدر على رسم ملامح وطنه؟ وإن رسمه، فهل يستطيع إخفاء الندوب التي ظهرت على وجهه؟ من مشرق الوطن إلى مغربه، مسافات من السائل الأرجواني المنسكب من أجساد مسجاّة على أرصفة الفناء.. لم يعد بإمكاننا تشبيه الوطن بالحبيبة فالكل يخون.. نادل المقهى لم يعد صديقاً للمثقفين، لقد كشف غدرهم للبن الأسمر مع شقراء يهاجرون إليها، وقد تقضي أرواحهم على شطآن بعيدة بحثاً عن الحب والمال والأمان. المثقفون يحتسون قهوة وطنهم ويتغزلون بنساء أخريات، لذلك فالنادل لم يعد يصنع للمثقفين القهوة ذاتها التي كان يصنعها للرعيل المخلص. سائق الحافلة لا يهتم إلا بالفوطة التي يلفها على عنقه من الخلف كي تمتص عرق جسده المتعب، وعندما يعود في المساء إلى منزله تتذمر زوجته من غسيل الفوطة كل يوم. يضايقها أن ليس لديها معطر غسيل كالأثرياء. والطفل الذي يعرض على أرصفة المارة سكاكره الملونة، ممنوع عليه أن يتذوقها كيلا تقل الأرباح. والفتاة التي كانت تحلم بفارس يأتيها على حصان أبيض، اكتشفت أن الفارس لديه أكثر من مهرة إلكترونية على مواقع التواصل. والشاب المهذب الذي أمضى عمره في الدراسة ولم يعرف شيئاً عن الحياة، وقع في فخ نصبته فتاة على الفضاء الإلكتروني، أوهمته أنه الأول في حياتها.. وصدق المسكين. موظف البريد المتقاعد حاقد على الذي اخترع الإيميل، ينظر في عيون أطفاله ويتلمس دراجته الهوائية، وحتى الآن لم يفتح الرسائل عادت إليه لخطأ في العنوان.. الساعي أمين، بينما الهاكر يخترق الحسابات. كل هذا وطن.. كل هذا التراب خانه الماء، فلم يتحوّل إلى طين نولد فيه من جديد..