قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إنّما بُعِثتُ لأتَمِّم مكارم الأخلاق”، وإنّ المتأمّل في معاني هذا الحديث الشّريف يٌدرٍك أنّ المجتمع الجاهلي لم يكن يَخلُو من بعض مكارم الأخلاق، والّتي نجدها في أشعار الجاهلية ومواقف العرب القديمة الرّاسخة من كرم وشجاعة ومروءة وإيثار وغير ذلك ممّا يدور في فلك العطاء الإنساني. وإنّ من أهم مقاصد بعثة نبيّنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم إلى العالمين، إتمام مكارم الأخلاق، والدّعوة إليها، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: ”إنّما بُعِثْتُ لأتَمِّم مكارم الأخلاق”، والخُلُق الطيّب هو أفضل ما يتزيّن به المسلم، ويتعبّد الله عزّ وجلّ به. لقد اكتمل صرح منظومة الأخلاق في عصر النُّبوة بعد أن نزلَت آية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} المائدة:). وقد استلهم جيل الصّحابة الفكرة والمعتقد، فترجم مثاليات الإسلام إلى واقع، وارتفع بالواقع البشري إلى درجة المثال. ويرجع الفضل في هذا التألّق إلى الارتباط الوثيق في حسّ ذلك الجيل بين حقيقة الإيمان وبين القيم الخلقية الّتي يشتمل عليها هذا الدّين. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ”إنّ الرّجل لَيَبْلُغ بحُسن خُلقِه درجة الصّائم القائم” رواه أحمد وأبو داود، وهو صحيح. ولئن كان هناك من الأخلاق ما يتطلّب مجاهدة للنّفس وصبرًا على الضرّ، فإنّ الكثير منها هيّن على النّفوس وشفاء لها، بيد أنّ غفلة المجتمع عن تلك الأخلاق أضحى ظاهرة سيّئة، لذا وجب على المرء الوقوف وقفة صِدق للاتصاف والاستمساك بها. ولعل ما يثير الإعجاب بعظمة عطاء ذلك الجيل الفريد والنّاجح، حرصهم على الثّبات في مستوى السّمُو، فلم يستكينوا للهبوط أبدًا، وكان كفيلًا بتحقيق التميّز والسّبق. وهذا ما يُفسِّر براعتهم وتفانيهم في نشر الإسلام في ربوع الأرض الفسيحة وبين الأقوام والملل الكثيرة، حيث اجتذبت قيمهم الرّاقية كلّ مَن تعامل معهم، ليُسجِّل التاريخ عبقرية الإسلام وسمو عطائه ومجد حضارته. أمّا اليوم، فقد وصل بنا خطّ الانحراف الطويل إلى أمّة ضعيفة متفرّقة، تحمل الإسلام اسمًا بلا معنى، إسلامًا بلا أخلاق، بل إسلامًا متهالك القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والمادية والروحية. لقد انحرف كثير من المسلمين عن حقيقة الإسلام الّتي عرفها العالم في عصر النّبوة والصّحابة، سلوكًا وتصوّرًا، وعزلوا الدِّين عن نظم الحياة المختلفة، فكانت نتائج ذلك، شعوبًا مهزومة مستسلمة هيمن عليها الغرب. فلم يَعُد مستهجنًا اختفاء الأخلاق والقيم لتحلّ محلّها الواجبات الوطنية أو النّفعية الأنانية باسم الحرية والتحضر. ولم يَعُد خافيًا أن تشاهد الألفاظ البذيئة تتقاذفها الأصوات الّتي تحمل أسماء مسلمة، ولم يَعُد مثيرًا للدّهشة تطاول الصّغار على الكبار وتجاوز حدود الاحترام والتّوقير بين الفئات بفُحش في القول والفعل. ولم يَعُد غريبًا استشراء الكذب والافتراء، ولم يَعُد ينكر أحد جرائم العدوان والظلم والاحتيال حين قسى القلب وتحجّر، حتّى أصبح دم المسلم رخيصًا، وحرمته مهانة، وسلبت حقوقه وابتزّت ممتلكاته. ولقد أخطأ مَن جعل الأزمة الأخلاقية في هامش أزمات الأمّة اليوم، بل هي محور أزماتها، وسبب استضعافها كما يكون علاجها سبب عودتها ونهضتها ومقياس حضارتها ورقيّها. قال الشاعر أحمد شوقي: إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا وإنّنا ندقّ ناقوس الخطر إن لم يتدارك كلّ مسلم ومسلمة نفسه ثمّ أسرته ثمّ محيطه بالحرص على القيَم السّامية للإسلام وبنشرها بين النّاس للتّأثير، إن لم يتدارك كلّ راع رعيته لحفظها من هذا الخطر الدّاهم، فلن نحلم بتجاوز مرحلة الاستضعاف الّتي نحن فيها اليوم.