انتهى الجدل داخل أروقة السلطة حول من سيمثلها في الانتخابات الرئاسية، فلم تعد تفصلنا سوى أيام قليلة عن إعلان الرئيس بوتفليقة ترشحه، لكن النقاش داخل الأروقة نفسها لايزال مفتوحا حول الشكل الذي يجب أن تأخذه العهدة الخامسة وحول محتوى الحملة الانتخابية التي ستروج لها، فالكثير من المؤشرات توحي بأن "عدوى" التردد انتقلت من صالونات المعارضة إلى مخابر صناعة القرار. كشفت مصادر مطلعة أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة سيعلن رسميا عن ترشحه لعهدة رئاسية خامسة في أجل أقصاه العاشر من الشهر الجاري، برسالة يوجهها إلى الشعب عبر وسائل الإعلام العمومية. وإذا كان ترشح الرئيس لعهدة خامسة لم يعد سرا، بعد أن مرت أحزاب التحالف إلى السرعة القصوى في إعلان دعمها ل"الاستمرارية" وبعد أن أعلن الوزير الأول أحمد أويحيى بشكل "شبه رسمي" عن استعداد بوتفليقة لإعلان ترشحه وبعد أن انتقل النقاش إلى التفاصيل التقنية لحملة المترشح، من سيديرها ومن سينشطها وكيف؟ إلا أن "السوسبانس" حول ما ستحمله رسالة الترشح المرتقبة والمحتوى الذي ستنشط من خلاله الحملة الانتخابية لايزال قائما، لأن السؤال الذي يطبع اليوم كل الصالونات السياسية المعنية بالرئاسيات هو حول الصورة التي ستأخذها الدولة بعد استهلاك الموعد الانتخابي. ففي حال فوز بوتفليقة بعهدة جديدة ستكون حتما الأخيرة، لا مناص من إبداع آليات أخرى لصناعة القرار. ولم يخف أحد المقربين من ملف ترشح الرئيس، في حديث جانبي، أن الخلاف داخل محيط هذا الأخير بلغ هذه الأيام أوجه حول هذا الموضوع واختصر ذلك في عبارة "الأمور المعقدة ستبدأ فعلا بعد إعلان نتائج الانتخابات".
بوتفليقة كان مترددا
لم يعد خافيا لدى الكثير من المتتبعين أن الرئيس بوتفليقة، ومن خلال مقربين، همس في أكثر من مناسبة بأنه غير متحمس للترشح إلى عهدة جديدة، بالنظر لوضعه الصحي، لكن الخلاف حول الأسماء التي بإمكان السلطة المراهنة عليها لخلافته وضع الجميع أمام حتمية الذهاب لعهدة خامسة، رغم ما قد يواجهونه من عقبات وتعقيدات، فأصحاب القرار لم يجدوا، كما تعودوا، المتسع من الزمن لإذابة مصالحهم المتناثرة في مصلحة واحدة، كونهم استهلكوا الكثير من الوقت للفصل في من سيكون "الفارس" الذي يخوضون به معركة أفريل الانتخابية. وأمامنا الكثير من الشواهد التي تؤكد عدم تحمس الرئيس في البداية لخوض معركة رئاسية جديدة، ومنها اللقاءات التشاورية التي جلس فيها السعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس ومستشاره الخاص، إلى عدد من الفاعلين السياسيين، تسرب منها لقاؤه في إقامة زرالدة مع رئيس حركة مجتمع السلم، عبد الرزاق مقري، ولم تتسرب منها لقاءاته مع الأمين العام الأسبق لحزب جبهة التحرير الوطني، عبد العزيز بلخادم، والفريق المتقاعد محمد مدين المدعو "توفيق"، المدير السابق لجهاز الاستعلامات والأمن "دي آر آس"، بالإضافة إلى شخصيات أخرى. كما أن الكثير من الفعاليات المقربة من محيط الرئيس كانت تجزم إلى وقت قريب بأن الرئيس لن يترشح، وكشفت مصادر موثوقة أن الجنرال توفيق فكر فعليا في الترشح فقد بلغه بأن الرئيس غير متحمس للاستمرار. وترجح بعض المصادر فرضية أن يكون نائب وزير الدفاع رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق ڤايد صالح، قد أنهى حالة الشك والتردد عندما أقنع الرئيس ومحيطه بضرورة التوجه إلى عهدة رئاسية جديدة. ولا يختلف المحيطون بالرئيس حول حقيقة مفادها أن العهدة الخامسة ستكون بالضرورة "مرحلة انتقالية" غير معلنة، لكن الخلاف كل الخلاف هو في الشكل الذي يجب أن تأخذه المرحلة، خاصة أن الفصل في هذا الملف هو الذي سيحدد معالم وشعارات الحملة الانتخابية للمترشح عبد العزيز بوتفليقة.
جدل حول مرحلة ما بعد بوتفليقة
وتشير بعض المصادر إلى أن فكرة استحداث منصب نائب أو نواب للرئيس أخذت ومازالت تأخذ حيزا واسعا من النقاش داخل صالونات السلطة، رغم فشل المدافعين عنها في تضمينها داخل نص الدستور الأخير، وهو ما دفع بوزير العدل، الطيب لوح، إلى التلميح قبل أشهر بأن السرعة في صياغة ذلك النص جعلته ناقصا وأن فكرة تعديله مرة أخرى ليست مستبعدة. لكن الخلاف حول الأسماء المرشحة للظفر بهذا المنصب والتخوف من تغيير صاحب المنصب المستحدث لولاءاته وما قد يطرأ عليه من طموح لما هو أعلى والصلاحيات التي يمكن للرئيس أن يتنازل عنها لصالح من ينوب عنه أجلت البت في الفكرة لكنها لم تلغها، فهي تبقى في نظر أطراف داخل السلطة بديلا معقولا لغيابات الرئيس، وإن كانت أطراف أخرى تفضل الاكتفاء بتوسيع صلاحيات الوزير الأول. وتؤكد المصادر نفسها أن سيناريو الذهاب إلى ندوة وطنية جامعة تحدد معالم جزائر ما بعد بوتفليقة لم يسقط تماما من أجندة السلطة، خاصة أنها يمكن أن تكون بوتقة تنصهر فيها كل السيناريوهات الأخرى، فالدافعون باتجاه هذا الخيار يرونه "ضرورة حتمية" لضخ دماء ساخنة في حملة انتخابية يُخشى من برودتها وفتورها، كما سيمكن السلطة من تسويق مقنع لعهدة خامسة يصف البعض الذهاب إليها ب"القفزة نحو المجهول" في ظل الإرهاق الذي يشوب عمل الكثير من مؤسسات الدولة. وتعمل أطراف كثيرة في السلطة على إقناع أصحاب القرار بحتمية تنظيم ندوة وطنية تجمع كل الأطراف المدنية والسياسية مباشرة بعد الرئاسيات، على أساس الإجماع وليس التوافق الذي يعني التفاوض. فالمطلوب، حسب قراءة هذه الأطراف، حوار جدي وشامل وغير موسوم بأي شرط قبلي أو قيد بعدي بين كل القوى الفاعلة في المجتمع، وبعيدا عن سياسة ليّ الأذرع من أجل اقتسام "الكعكة".. حوار يأخذ شكلا "تأسيسيا" لجمهورية جزائرية جديدة يكون الرئيس ثم الجيش ضامنين لآليات الانتقال إليها. اعتقدت مساحة واسعة من المتابعين للمشهد السياسي في الجزائر وخارجها أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة سينهي حالة الترقب بإعلان ترشحه لعهدة خامسة، قبل أن يفاجأ نفس المتابعين بأن "السوسبانس" لايزال يطبع المشهد، فإعلان الترشح قد يحسم مصير الرئاسيات لكنه أبعد ما يكون عن حسم مصير جزائر ما بعد الرئاسيات.