عند الوصول إلى مخيمات اللاجئين الصحراويين في ولاية تندوف، على بعد 1750 كيلومتر جنوب غرب الجزائر العاصمة، يشد انتباه الزائرين العدد الكبير للنساء الصحراويات، الأمر لا يتعلق بتفاوت ديموغرافي بين المرأة والرجل، لكن طبول الحرب التي قرعت في 13 نوفمبر الجاري، بعدما أطلق المخزن رصاصة الرحمة على اتفاق وقف إطلاق النار المبرم بينه وبين جبهة البوليساريو عام 1991، عبر إرسال قوات عسكرية للسيطرة على معبر الكركرات على الحدود الصحراوية مع موريتانيا، دفعت غالبية الرجال الصحراويين إلى الالتحاق طوعا بالمدارس العسكرية وساحات القتال، تلبية لنداء جبهة البوليساريو، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الصحراوي. لم تكن ثغرة الكركرات التي جعلها المغرب طريقا يوصل بينه وموريتانيا ودول غرب إفريقيا عبر أرض يحتلها، ثغرة غير قانونية في جدار الذل والعار كما يصفه الصحراويون فحسب، بل الثلم الذي تسربت منه فتنة أشعلت فتيل نار الحرب في المنطقة بعد قرابة ثلاثة عقود أمضاها الصحراويون في انتظار تجسيد مخرجات اتفاق سلام هش لم يصمد في رمال الصحراء المتحركة، صابرين على وعود المجتمع الدولي بتمكينهم من حقهم في تقرير المصير واستعادة سيادتهم على كامل تراب الجمهورية الصحراوية البالغ مساحتها 266 ألف كيلومتر مربع. وداخل الأراضي الصحراوية يمتد الجدار الفاصل الذي بناه المغرب على طول 2700 كلم من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، ويحتل المغرب المنطقة الأكبر شمال الجدار المقدرة بحوالي 80 بالمائة من الأراضي الصحراوية، بينما تتواجد البوليساريو في مناطق في الشطر الجنوبي للجدار في بلدات أهمها تفاريتي وميجيك وبئر لحلو، حيث أقيمت إدارات وتجمعات سكنية صغيرة. ومع تأخر تجسيد الحلول الدولية التي ترعاها الأممالمتحدة واستمرار انتهاكات المغرب المتكررة داخل الأراضي المحتلة، وحتى المحررة، يقول الصحراويون إن خيار الحرب والكفاح المسلح فرض عليهم غصبا، ولا بديل لهم اليوم عن البندقية لنيل الاستقلال والحرية. ففي المخيمات لم يبق من الشباب الصحراوي إلا عدد قليل يعملون في مؤسسات الجبهة أو مرافق الحكومة الصحراوية والوزارات، وهم متطوعون أيضا في صفوف جيش التحرير الصحراوي، يشتغلون في ورشات خياطة الزي العسكري والجانب الإداري والتقني، وفريق آخر تولى مهمة التعبئة والإعلام وترجمة البيانات العسكرية ونشرها في وسائل الإعلام الوطنية وتوزيعها على الإعلام الدولي حتى لا يتركوا للمحتل المغربي نشر الأخبار المغلوطة والمضللة عن المواجهات التي لم تتوقف منذ أيام. وتبرز مهام الشباب اختلاف مخيمات الصحراويين في الجزائر عن معظم مخيمات اللاجئين في العالم من حيث مستوى التنظيم الذاتي، فمعظم شؤون الحياة في المخيم يديرها اللاجئون أنفسهم، مع قليل من التدخل الخارجي. وبالإضافة إلى مخيم ربوني الإداري، تنقسم مخيمات اللاجئين إلى خمس ولايات حملت كلها أسماء بلدات في الصحراء الغربية المحتلة وهي العيون، أوسرد، السمارة، الداخلة، وبوجدور، وتبعد جميعها حوالي ساعة واحدة بالسيارة من مدينة تندوف. ومن داخل مخيم ربوني الإداري حيث تتواجد مقرات الرئاسة والحكومة، يقول أحمد علين محمد سالم، شاب صحراوي يعمل متطوعا في وزارة الدفاع الوطني بالمخيم، ليساعد مديرية الأفراد على تسجيل قوائم المتطوعين في قواعد البيانات العسكرية، كما يساعد التلفزيون الوطني في نشر الأخبار وترجمتها، يقول إن "الالتحاق بساحة المعركة ممكن في أي وقت، لأننا لا ندري كم ستدوم الحرب، ولكن الأكيد أنها حرب شاملة كانت الكركرات شرارتها وأصبحت الصحراء الغربية المحتلة ساحتها الفسيحة، وبالتالي ستكون حربا طويلة الأمد ضد عدو مدعوم من إمبريالية العالم".
المدارس العسكرية تعج بالمتطوعين وفيما ينتظر أحمد الوقت المناسب لحمل السلاح في صفوف جيش التحرير الصحراوي، على بعد قرابة 60 كلم غرب مخيم ربوني، مقر القيادة الصحراوية التابع إداريا إلى ولاية تندوف، تنتظر طوابير طويلة من الشباب الصحراوي دورها للتسجيل في مدرسة الشهيد الوليد مصطفى السيد، مفجر الثورة الصحراوية. وعلى وقع شعار "بالبندقية ننال الحرية"، يتدرب مئات الملتحقين الجدد في ساحة المدرسة تحت شمس الصحراء الحارقة بملابسهم المدنية، في انتظار خياطة أعداد كافية من الزي العسكري للمنظمين الجدد. ورغم الإمكانيات البسيطة والمتواضعة التي وقفت عليها "ّالخبر"، يؤكد مدير المدرسة في هذا السياق أن يوم الاحتفال الأكبر هو يوم النداء إلى الحرب والنزول إلى ساحات القتال لوقف انتهاكات الاحتلال المغربي. وعلى بعد بضعة كيلومترات أخرى قطعناها داخل سهول صحراء الرق المغطاة بالحصى، يتدرب جنود الجيش الصحراوي على الرماية في مدرسة الشهيد هداد الداف لسلاح المدرعات. يقول مدير المدرسة، النانة عثمان في حديثه مع "الخبر": إن المدرسة تواجه ضغوطا كبيرة في التعامل مع الأعداد الكبيرة التي تصل يوميا للانضمام إلى صفوف المقاتلين، مؤكدا أنها الوضعية ذاتها التي تشهدها بقية المدارس العسكرية في المنطقة منذ 13 نوفمبر، إذ أن آلاف المتطوعين يتم تجنيدهم للالتحاق بالقوات المسلحة الصحراوية للرد على العملية العسكرية التي نفذها المغرب في معبر الكركرات. ولا تقتصر رغبة خوض الكفاح المسلح على الرجل الصحراوي فحسب، فالمرأة الصحراوية بدورها لا تزال تناضل ضد الاحتلال المغربي، كما ناضلت ضد المستعمر الإسباني في سبعينيات القرن الماضي من أجل الهدف نفسه؛ وهو تحرير الأرض، حيث تنظم الصحراوية الندوات وتعتقل وتسحل وتشرد وتحمل البندقية بكف، وبأخرى تربي الأجيال على الثورة ضد المحتل. ولتعلم حمل السلاح والرماية، تتجه الكثير من البنات الصحراويات إلى مدرسة الشهيدة الزعرة حمدي محمد عبد الرحمن، حيث يتم تدريبهن على فنون القتال واستعمال السلاح، إلى جانب التكوين داخل ورشات الخياطة، والإدارة والتسيير والصحة. في عقدها الثالث، ترى دكالة محمد سالم التي التحقت بالمدرسة عند افتتاحها عام 2018، أن انضمامها مع بقية المقاتلات الأخريات كان حتمية فرضتها ظروف الحرب القادمة لا محالة، وتؤكد في حديث مع "الخبر" أن وجود النساء في المدارس العسكرية شرف وواجب وطني للتضامن مع إخوتهم الرجال الذين يرابطون على تخوم الأراضي المحتلة وقرب الجدار العازل، وذلك للتخلص من براثن الاستعمار وسياساته المقيتة. وبدورها، تقول نجاة وهي متطوعة في الهلال الأحمر الصحراوي، وُلدَت عام 1991 تزامنا مع اتفاق وقف إطلاق النار وتَرعرعت وكبرت في المخيمات والقضية الصحراوية تعيش حالة اللاحرب واللاسلم: "شخصيا لا أحب الحروب، لكنها فرضت علينا بعد أن نفد صبر الشباب الصحراوي ولم يعد يتحمل الوعود والتطمينات التي يقدمها المجتمع الدولي". نجاة لا تحمل السلاح ولا تتدرب على فنون القتال، لكنها تحمل دواء وغذاء للاجئين والمقاتلين وتساهم في إطار الهلال الأحمر الصحراوي مع بنات جيلها في خدمة الثورة على طريقها.
في غياب الرجال... المرأة الصحراوية هي السيد وبعد مغادرة الرجل الصحراوي لمخيمات اللاجئين صوب جبهات الكفاح، تصبح المرأة الصحراوية هي السيد والحكم في تسيير شؤون المخيمات، وتنخرط بكل حماسة في صفوف الجبهة الشعبية لتخوض جنباً إلى جنب مع أخيها الرجل، غمار حرب وطنية جمعت باقتدار بين مهمة التحرير والبناء. وفي حديثها مع "الخبر"، تقول العزة ببية، والي ولاية بوجدور التي أمضت أكثر من عقدين في الأجهزة التنفيذية للدولة: تقول إن ''المرأة الصحراوية لها دور بارز في التسيير؛ فهي الطبيبة والمعلمة ورئيسة البلدية والدائرة والولاية، وهذا ليس وليد الصدفة، فقد ساهمت في الثورة ضد الاحتلال قبل وقف إطلاق النار وكان لها مشاركة سياسية بارزة، إذ أنها هي التي تسير القطاعات القاعدية للدولة الصحراوية''. وتوضح العزة التي انضمت إلى الجبهة الشعبية بمجرد إكمال دراستها، ومرت بعدة مناصب تنفيذية، فكانت أول امرأة تتقلد منصب رئيس دائرة، ثم أمين عام ولاية السمارة، وصولا إلى منصب والي ولاية بوجدور، توضح أنه "في العادة تتقاسم المرأة مع الرجل العمل في أي ميدان، لكن في ظرف الحرب تتغير طبيعة العمل والمسؤولية، فمع ذهاب الرجل إلى جبهات القتال، تبقى المرأة لتسيير الأمور على مستوى القاعدة الشعبية." وكمثال على مسؤولية المرأة في الحرب، تقول محدثتنا إن ولاية بوجدور لم يبق فيها سوى 16 من أصل 100 شرطي، التحق جميعهم بالميدان ليتركوا المهمة للمرأة. وتعتبر أن مسؤولية المرأة في هذه الظروف أن تسهل على الرجل تفرغه للقتال عبر تحمل مسؤولية تسيير الشؤون العامة، مستدركة أن وجود المدارس العسكرية للنساء أهلت المرأة للمشاركة في الحرب وفي الإدارة العسكرية، إذ أن المرأة الصحراوية قادرة على كل شيء حتى حمل السلاح في الحرب إلى جانب الرجل، رغم عادات وتقاليد المجتمع المحافظة. وعن ثقل المسؤولية، تقول والي بوجدور إن "المساهمة في الحرب واجب وطني ولا مصاعب أمام التحرير، فالمرأة الصحراوية التي تنجب أبناء وتدفعهم مع زوجها للحرب، لا مصاعب أمامها''. ويشار إلى أن دور المرأة الصحراوية كان مركزيا بالفعل في مرحلة ما قبل الاستعمار، واستمر تعزيزه أثناء سنوات الحرب ما بين 1975-1991، عندما أدارت معظم المخيمات، حين كان الرجال يقاتلون في الجبهة، هذا إلى جانب تقديم دروس التربية والقراءة والتعليم. وعموما، لا يقتصر عطاء المرأة الصحراوية على جانب واحد من النضال السياسي، فكل واحدة تساهم من موقعها، من داخل البيت وضمن مؤسسات الدولة وعلى مستوى جمعيات ومنظمات المجتمع المدني بمخيمات اللاجئين وبالأراضي الصحراوية، بما فيها المحتلة، وحتى من خارج حدود الجمهورية أسماء كثيرة لنساء صحراويات كتبت أسماؤهن بأحرف من ذهب في سجل الحركات التحررية عبر العالم.
الصحراويون في الخارج يترقبون التحاقهم بجبهات القتال ومنذ أن وجهت جبهة البوليساريو نداء الكفاح المسلح للشعب الصحراوي، تباينت مظاهر دعم الشعب الصحراوي في الشتات لإخوتهم في جبهات القتال، ولم تُنس حياة أوروبا الجالية الصحراوية واجبها تجاه الوطن، حيث خرجت في مظاهرات ووقفات بعدة عواصم معلنة عن رغبتها في العودة للمشاركة في كتابة تاريخ جديد للبلاد، لكن الظرف الاستثنائي الذي يمر به العالم منذ انتشار وباء كورونا وغلق الحدود والمطارات الدولية، وقف حاجزا أمامها. وفي اتصال مع "الخبر"، يقول سيد أحمد مفتاح شاب في العشرينات مقيم في اسبانيا: "لا العمل ولا الدراسة أصبحا همنا؛ فكل ما يعنينا ورغم أوضاع كورونا، هو كيفية الالتحاق بالجبهات"، ويؤكد أن كل مهاجر صحراوي يعيش في ترقب كل لحظة وتعطش غير طبيعي للأخبار، مضيفا "أصبحنا نعيش على أعصابنا.. نتواجد في المكان فيزيائيا فقط، قلوبنا وكل الأحاسيس بعيدة، مسافرة صوب جبهات القتال بالأرض المحتلة. ويرى سيد أحمد أن حضوره إلى الأراضي الصحراوية ضروري لمشاركة شعبه في صناعة ملحمته من جديد وكتابة نصره وتاريخه. وفي انتظار تمكينه من الالتحاق بالجبهات، يشارك أحمد في معركة إعلامية لا تقل هوادة، بدأها المحتل المغربي عبر وسائط التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت، فمعركة مواجهة تزييف الحقائق واجب آخر يجب المشاركة فيه، حسبه.
الجزائر حليف تاريخي ورغم ظروف المعيشة الصعبة التي يحياها الشعب الصحراوي، انطلاقا من وضعية اللجوء والعيش في المخيمات، يعمل جميع الصحراويون، سواء أكانوا في أرض المعركة أو في الجبهات الخلفية، كخلية نحل لخدمة قضيتهم، وصولا إلى استعادة السيادة الكاملة على أراضيهم ومعانقة الحرية وكل أحلامهم التي انتظروها على مر عقود. ومنذ ما يزيد عن 45 عامًا، تستضيف الجزائر اللاجئين الصحراويين، بعدما هجروا قسرا من الصحراء الغربية عند اجتياحها عسكريًا من قبل الجيش المغربي، عقب انسحاب الاستعمار الإسباني خريف عام 1975، حيث تستضيف قرابة 165 ألف صحراوي في مخيمات اللاجئين، وهو ما يمثل ثلث السكان البالغ عددهم نصف مليون مواطن، في حين ينتشر بعض منهم في عدة عواصم أوروبية بعيدا عن الوطن. وتؤكد الجزائر بأن الحل الدائم والوحيد لإنهاء معاناة الصحراويين جراء التهجير القسري، يتمثل فقط في العودة الطوعية إلى بلدهم في إطار التطبيق الكامل لخطة الأممالمتحدة للسلام في الصحراء الغربية، التي تضمن للشعب الصحراوي الحق في تقرير مصيره. وإلى حين تجسيد ذلك، تتمسك الجزائر بدعم الصحراويين وتحاول - كلما سنحت لها الفرصة - أن تقدم مساعدات إنسانية، آخرها شحنة 60 طنا من المواد الغذائية تقدم بها الهلال الأحمر الجزائري. وفي ظل انتشار وباء كورونا، ساهم في إيصالها الجيش الشعبي الوطني، الرفيق الدائم لجميع المساعدات الجزائرية، حسب ما قاله مدير الهلال الأحمر الصحراوي. ويشار إلى أن الدعم الجزائري للشعب الصحراوي ليس وليد اليوم، بل يعود لعقود ويتعزز يوما بعد يوم، سواء على المستوى الرسمي أو من قبل المجتمع المدني، وذلك لإيمان ويقين الجزائر أن الحق غير القابل للتصرف في تقرير المصير والاستقلال هو حق متأصل ولا يقبل التقادم أو الالتفاف عليه تحت أي ظروف أو مبررات كيف ما كانت.