منذ بدء المواجهة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني في السابع أكتوبر الماضي، حرصت الولاياتالمتحدةالأمريكية بكل الوسائل السياسية والعسكرية، على منع تمدد نطاق المواجهة إلى خارج غزة والحد من توسع تداعيات الصراع إلى مناطق أخرى، سواء على مستوى المواجهة السياسية أو العسكرية. لكن المواجهة في غزة تحولت لاحقا إلى عمق الولاياتالمتحدة نفسها، والتي صارت جزء من الحدث الفلسطيني، كما صار الحدث الفلسطيني مسألة احتراب سياسي داخلي ومواجهة بين المؤسسة السياسية ومصالح الشرطة والطلبة في الجامعات الأمريكية التي انتفضت ضد حرب الإبادة الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني وضد المواقف الأمريكية المنحازة للكيان الصهيوني، وفي سياق المطالبة بوقف التعاون بين الجامعات الأمريكية والمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية وضرورة مقاطعتها. في منتصف عام 1968، لعبت الجامعات الأمريكية دورا بارزا في إثارة المواقف الداعمة لوقف الحرب في فيتنام، وانتشرت في تلك الفترة المظاهرات الطلابية الرافضة لهذه الحرب والداعية إلى عدم الزج بالجنود الأمريكيين في هذه الحرب، وعززت الانتفاضة الطلابية في أمريكا المواقف التي كانت تدفع إلى إقرار انسحاب أمريكي من فيتنام وإثارة الرأي العام الداخلي حول القضية الفيتنامية، وتزامنت ثورة الطلبة في تلك الفترة مع المؤتمر العام للحزب الديمقراطي في أوت 1968 في شيكاغو، حيث نشبت أحداث ومواجهات بين الشرطة والطلبة. بحسب الكاتب تشارلز بلو الذي نشر مقالا في صحيفة نيويورك تايمز، فإن نفس السيناريو مرشح لأن يتكرر هذا العام في شهر أوت المقبل. وقال "كما حدث في عام 1968 سينتهي الفصل الدراسي قريبا وسيغادر هؤلاء الطلاب للصيف، ما يتيح المزيد من الوقت والطاقة لتركيز جهودهم على المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في شيكاغو في أغسطس المقبل". وبالنسبة لنفس الكاتب، فإن الطلبة المنتفضين يتابعون هذه المرة الحرب الإسرائيلية على وسائل التواصل الاجتماعي، ويشعر الكثيرون بالرعب مما يرونه، إضافة إلى أنهم نشأوا أيضا مع الحركات الاحتجاجية "احتلوا وول ستريت"، وحركات أخرى كالمظاهرات المنددة بالعنصرية ضد السود. وفي السياق تخطط الجماعات المناهضة للحرب بالفعل لتنظيم احتجاجات كبيرة في المؤتمر المقبل للحزب الديمقراطي الذي سيقرّر ترشيح جو بادين لولاية رئاسية ثانية. وأعلنت شبكة الجالية الفلسطينية الأمريكية أنها "ستنظّم مسيرة بتصاريح أو بدونها خلال المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي المقبل والذي يعدّ الأهم منذ عام 1968 وينضمّ أيضا في مدينة شيكاغو". تبرز أهمية انتفاضة الطلاب والجامعات الأمريكية بالنسبة للحرب في غزة، في كونها مؤشر على استفاقة هامة ومفصلية للرأي العام الأمريكي ستكون لها تأثيراتها في التوجهات المستقلبية على صناعة القرار اتجاه المسألة الفلسطينية، ويحدّ نسبيا من الانحياز المفرط وغير محدود للإدارة الأمريكية لصالح الكيان الصهيوني، وهي عنوان كبير لرفع غطاء الشرعية السياسية والشعبية عن الموقف الذي يتبناه البيت الأبيض لصالح دعم الكيان الغاشم وفشل ذريع لهذه الإدارة في إقناع الرأي العام الأمريكي بصوابية هذه المواقف، حيث لم تعد مقنعة سياسيا وأخلاقيا، خاصة لتعارضها مع المبادئ والقيم الديمقراطية الأمريكية. لكن الأهمية السياسية بالنسبة لهذا التحول اللافت الذي تصنعه حركة الطلاب في أمريكا، يتعلق بكون أنها ذات أهمية بالغة بالنسبة للقضية الفلسطينية التي تكون قد حققت اختراقا كبيرا لصالحها على مستوى النخب الطلابية والأكاديمية، خاصة وأن هذا المجتمع الطلابي سيكون له مكان في مواقع المسؤولية السياسية والإعلامية في المستقبل، وهو ما سيصبّ في صالح تعديل المواقف بصورة تخدم القضية الفلسطينية وتغيير التشريعات ذات الصلة ويدعم حقوقها الأساسية للفلسطينيين على الأقل على صعيد خيارات الشرعية الدولية. ولأن الصراع والمواجهة الشاملة بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني، تجعل من كل مكسب يتحقق لصالح القضية، خسارة مقابلة للكيان، فإن الحراك الطلابي في أمريكا في سياقه السياسي والتاريخي مؤشر بالغ الأهمية على انكسار كبير للسردية الصهيونية وتعرية المظلومية التي تأسست عليها منذ عقود ودخولها مرحلة الضوء وانكشاف زيفها، وهو مأزق يرعب الكيان الصهيوني بسبب المخاوف من خسارة أكثر البيئات السياسية والإعلامية التي كانت تغطي وتبرر لسياساته العدوانية.