اتخذت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، منذ اليوم الأول للعدوان الصهيوني على غزة، موقفًا متطرفًا في دعمها لسياسات حكومة بنيامين نتنياهو ضد الشعب الفلسطيني، واستخدمت حقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضد مشروعَي قرار روسي وبرازيلي يطالبان بوقف إطلاق النار. وكانت الولاياتالمتحدةالأمريكية من بين 14 دولة صوّتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 27 أكتوبر 2023، ضد مشروع قرار تقدمت به المجموعة العربية، يدعو إلى "وقف فوري لإطلاق النار" ودخول مساعدات إنسانية من دون معوقات، ويحضّ "كل الأطراف" على "حماية المدنيين". ونظرًا إلى الأزمة الإنسانية التي يشهدها قطاع غزة نتيجة العدوان الصهيوني، اضطرت إدارة بايدن إلى تعديل موقفها وممارسة ضغوط على الكيان ليقبل ب«هدن إنسانية"، محدودة من حيث الزمان والمكان. خلفيات التحوّل تبدي إدارة بايدن، في محادثاتها الخاصة مع الصهاينة، وفي العلن مؤخرًا، استياءً مخففًا من الهجمات العشوائية التي تستهدف المدنيين الفلسطينيين والبنية التحتية في قطاع غزة، وتطالب الحكومة الصهيونية باحترام القانون الدولي الإنساني في حربها على القطاع، إلا أنها ما زالت ترفض أيّ دعوة لوقف إطلاق النار؛ بذريعة أن ذلك سيمنح حركة حماس الوقت لتعزّز صفوفها "وتكرّر ما فعلته في 7 أكتوبر". تزامَن هذا التوجّه الجديد لدى الإدارة مع تصاعد الاحتقان في الشارع العربي، على نحوٍ دفع دبلوماسيين أمريكيين في المنطقة إلى التحذير من أن الدعم الأمريكي المطلق للعدوان الصهيوني "يفقدنا العرب لجيل كامل"؛ فهذا الدعم يرقى إلى "مسؤولية مادية ومعنوية عما يعتبرونه جرائم حرب محتملة". إضافةً إلى ما سبق، كان للضغوط الداخلية، سواء من داخل الإدارة أو من الحزب الديمقراطي أو في الكونغرس، أو جزء من الشارع الأمريكي الرافض لانحياز بلاده إلى العدوان الصهيوني، دورٌ في تغيّر موقف إدارة بايدن نحو التخفيف من الآثار الإنسانية الكارثية للعدوان في قطاع غزة، من دون أن يعني ذلك مغادرتها مربّع الانحياز المطلق إلى الكيان. تعاظم الضغط من داخل الإدارة تضاعفت، على مدى الأسابيع الماضية، رسائل الاحتجاج من داخل إدارة بايدن وحملته الانتخابية الرئاسية؛ بسبب دعمها المطلق للكيان الصهيوني في عدوانه على قطاع غزة. وكان آخرها رسالة تسلّمها البيت الأبيض في 15 نوفمبر 2023، وقّعها أكثر من 500 سياسي في 40 وكالة حكومية. وجاء فيها: "إننا ندعو الرئيس بايدن إلى المطالبة عاجلًا بوقف إطلاق النار، والدعوة إلى وقف تصعيد الصراع الحالي من خلال ضمان الإفراج الفوري عن الرهائن الصهاينة والأسرى الفلسطينيين، واستعادة خدمات المياه والوقود والكهرباء وغيرها من الخدمات الأساسية، ودخول المساعدات الإنسانية الكافية إلى قطاع غزة". وشددَّ موقّعو الرسالة على أن "الأمريكيين لا يريدون أن ينجرّ الجيش الأمريكي إلى حرب أخرى مكلفة ولا معنى لها في الشرق الأوسط". ويذكر أن غالبية الموقعين هم سياسيون يعتنقون ديانات مختلفة ويعملون في القطاعات الحكومية؛ من قبيل مجلس الأمن القومي ومكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) ووزارة العدل. وقد ساعد بعض هؤلاء بايدن في حملته الانتخابية الرئاسية عام 2020. وجاء في الرسالة أن "الأغلبية الساحقة من الأمريكيين تؤيد وقف إطلاق النار"، في إشارة إلى استطلاع للرأي أُجري في أكتوبر أظهر أنّ 66 في المئة من الأمريكيين، و80 في المئة من الديمقراطيين، يعتقدون أنّ على الولاياتالمتحدة أن تمارس الضغط على الكيان؛ من أجل وقف إطلاق النار. وجرى تسريب مذكرة داخلية في وزارة الخارجية الأمريكية، وقّعها 100 موظف من موظفي الوزارة والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، اتهمت بايدن ب«نشر معلومات مضللة" حول هذه الحرب، مشيرةً إلى أن ما يقوم به الكيان في قطاع غزة هو "جرائم حرب". وتذهب المذكرة أبعد من ذلك في نقدها للرئيس، حيث اتهمته ب«التواطؤ في الإبادة الجماعية" في غزة. ورغم أن الناطق باسم الخارجية الأمريكية، قلل من تأثير تلك الرسائل في سياسة إدارة بايدن، فإنّ بلينكن اجتمع بعدد من الموظفين الساخطين. بدأ القلق يتسرّب إلى حملة بايدن الرئاسية؛ إذ إنه ربما يغامر بفرص نجاحه في الانتخابات الرئاسية في العام القادم، إذا ما استمر في تجاهل الإحباط الواسع بين صفوف الجناح التقدّمي في الحزب الديمقراطي وفئة الشباب بسبب موقفه المؤيد للعدوان الصهيوني. وتشير استطلاعات للرأي إلى تعاطف هاتين الشريحتين مع الفلسطينيين. وربما يخسر بايدن أصوات العرب والمسلمين الأمريكيين؛ على نحو يكلفه خسارة ولايات مهمة مثل ميشيغان وجورجيا. وقد أظهر استطلاع حديث للرأي أن المرشح الجمهوري الأوفر حظًا في الانتخابات الرئاسية المقبلة هو الرئيس السابق، دونالد ترامب، يتقدّم على الرئيس جو بايدن في 5 ولايات رئيسة من أصل 6، هي: نيفادا وجورجيا وأريزونا وبنسلفانيا وميشيغان، ويتوقّع أن يتقدم بايدن في ولاية واحدة، هي ويسكونسن، تقدّمًا طفيفًا. ويرى مؤيدو انحيازه إلى الكيان الصهيوني داخل حملته الانتخابية، أن هذا سيكون في صالحه انتخابيًا، رغم أنّ أحد أهم أسباب فوز بايدن في انتخابات 2020 هو نجاحه في حشد تحالف التقدميين والشباب، إضافةً إلى العرب والمسلمين الأمريكيين، وهو أمر فشلت فيه المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في معركتها الانتخابية أمام ترامب عام 2016. تغيير تكتيكي؟! التقى بلينكن في الكيان، في 3 نوفمبر 2023، برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومجلس وزراء الحرب الصهيوني، وحاول إقناعهم بأنّ تآكل الدعم الداخلي الأمريكي والدولي للكيان جراء المأساة الإنسانية المروعة في قطاع غزة، بما في ذلك قصف مدارس الأممالمتحدة والمستشفيات التي لجأ إليها آلاف المشردين، سيكون له تداعيات استراتيجية وخيمة. وحذّر بلينكن في مؤتمر صحفي من أن الكيان الصهيوني يخاطر بتدمير احتمالات السلام في نهاية المطاف، ويدفع الفلسطينيين "نحو مزيد من التطرف"، إذا لم يبادر إلى تحسين الأوضاع الإنسانية في غزة. وقال إنّ "وقفًا مؤقتًا" لإطلاق النار، سيسمح بدخول مساعدات إنسانية إلى القطاع، وبالإفراج عن بعض المحتجزين لدى حركة حماس وفصائل فلسطينية أخرى. إلا أن نتنياهو أكّد بعد ذلك أنّ حكومته "ستمضي بكل قوّتها إلى الأمام"، ولن يُتّخذ قرار وقف إطلاق النار قبل أن تطلق حماس سراح كل المحتجزين. اضطرت الحكومة الصهيونية، تحت وطأة الضغوط الأمريكية المتواصلة، إلى الموافقة على هدنة يومية، وصفها الكيان ب«فترات توقف تكتيكية محلية"، مدّتها أربع ساعات في شمال قطاع غزة لتمكين الفلسطينيين من النزوح إلى الجنوب عبر ممرَّين إنسانيَّين، والسماح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وتهيئة الأجواء للإفراج عن محتجزين لدى حماس. ويعني الكيان ب«فترات التوقف التكتيكية المحلية" أن تكون محصورة في مناطق معيّنة في القطاع، أي أنها ليست عامة، ومددها محددة، رغم أن بايدن طلب هدنة مدة ثلاثة أيام أو أكثر، وألمح إلى إحباطه من تأخّر التجاوب الصهيوني ومحدوديته. بناءً عليه، لام بلينكن الصهاينة لومًا مبطنًا، لكنه غير مسبوق منذ 7 أكتوبر؛ فقد صرّح من العاصمة الهندية، نيودلهي، أن على الكيان الصهيوني بذل المزيد من الجهود "لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين الفلسطينيين". لكنه أعرب عن دعمه ل«حق الصهاينة في الدفاع"، مثنيًا في الوقت ذاته على قبولها بالهدن الإنسانية المؤقتة. وتأمل إدارة بايدن أن تهيئ الهدن المؤقتة والمحدودة، من حيث الزمان والمكان، الشروط اللازمة للتوصل إلى هدنة تستمر عدة أيام، يجري خلالها إتمام صفقة بين الكيان وحماس لتبادل الأسرى، فضلًا عن دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. أبدت الحكومة الصهيونية تعنّتًا، سواء فيما يتعلق بتجنيب المدنيين أهوال الحرب، أو إفساح المجال أمام هدنة إنسانية بضعة أيام من أجل الإفراج عن بعض المحتجزين لدى حماس، خصوصًا من ذوي الجنسية الأمريكية، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، أو وضع أهداف أكثر واقعية في حربها على قطاع غزة. بناءً عليه، بدأت إدارة بايدن تصعّد نبرتها تدريجيًا تجاه حكومة نتنياهو. وفي إطار الانحياز المطلق إلى للكيان، تستمر في تقديم الدعم له، من قبيل طلبها من الكونغرس مبلغ 14.3 مليار دولار، سيقدّم أغلبه مساعدات عسكرية، فضلًا عن السلاح والذخيرة، وتصرّ على موقفٍ مفاده أن الكيان يمارس حقًا مشروعًا في الدفاع عن النفس، وترفض المطالبة بوقف إطلاق النار. خطوط بايدن الحمراء في 8 نوفمبر 2023، خلال اجتماع وزراء خارجية الدول السبع الكبار في العاصمة اليابانية، طوكيو، حدّد بلينكن ما عدّه البعض خطوطًا حمراء بالنسبة إلى الكيان الصهيوني، من أجل الوصول إلى "سلام دائم ومستدام" بعد الحرب. وجاء ذلك في سياق تخوّف واشنطن من إعلان نتنياهو أنّ الكيان سيتولى "المسؤولية الأمنية" عن غزة "فترة غير محددة"، بعد الحرب، وأعربت إدارة بايدن عن عدم ارتياحها. أما الخطوط الحمراء، فهي: "لا إعادة لاحتلال لغزة بعد انتهاء الصراع"، و«لا لتقليص مساحة غزة و(ضرورة) الالتزام بإدارة الأراضي الفلسطينية في غزةوالضفة الغربية بطريقة موحدة"، و«لا للتهجير القسري للفلسطينيين من غزة"، و«لا لحصار غزة"، ولا لاستخدام غزة "منصة للإرهاب أو غيرها من الهجمات العنيفة". وقد أعاد مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، تأكيد هذه الخطوط الحمراء، مشيرًا إلى أن جزءًا من رؤية إدارة بايدن لقطاع غزة بعد انتهاء الحرب هو إعادة توحيد السيطرة عليه مع الضفة الغربية تحت القيادة الفلسطينية. وترى إدارة بايدن أنّ إعادة إحياء دور السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، إذا ما جرى تقويض حكم حماس، لن تكون على نحو مباشر، بل تتطلّب وجود "سلطة فلسطينية فعالة"، وهو أمر يستغرق وقتًا حتى يتحقق. ويرفض الكيان أيضًا وضع قطاع غزة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية التي تتهمها بالعجز والتحريض على الإرهاب؛ لذلك، تطرح واشنطن خيارات انتقالية مؤقتة، من قبيل أن تشرف دول عربية، مثل مصر والأردن، على القطاع. في المقابل، ترفض مصر والأردن القيام بهذا الدور؛ فقد تساءل وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي "كيف يمكننا أن نفكر فيما سيحدث في غزة، ونحن لا نعرف أيّ نوع من غزة سيبقى بعد انتهاء هذه الحرب؟ هل سنتحدث عن أرض قاحلة؟ هل سنتحدث عن تحول عدد السكان بأكمله إلى لاجئين؟ ببساطة، نحن لا نعرف، ليس لدينا كل المتغيرات للبدء في التفكير في ذلك". بناءً عليه، طرحت واشنطن خيارًا آخر، يتمثل في أن تدير القطاع وكالات دولية وتشكّل قوة متعددة الجنسيات للحفاظ على السلام. ويصطدم هذا الخيار بمعارضة الكيان الصهيوني من جهة، وبارتباطه بتقويض حكم حماس وتفكيك قدراتها العسكرية، من جهة أخرى. خاتمة يسود ارتباك واضح بشأن مقاربة إدارة بايدن للعدوان الصهيوني على قطاع غزة؛ فهي تدعو الكيان إلى ضبط النفس وتجنب إيقاع خسائر بين المدنيين الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه، تقرّر تزويده بقنابل دقيقة التوجيه تبلغ قيمتها 320 مليون دولار. وفي حين ترفض الإدارة مطالبة الكيان بوقف إطلاق النار وتدعم مسعاه للقضاء على حماس، فإنها تدعوه إلى إعادة النظر في هذا "الهدف الكبير" صعب التحقق، كما قال رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال، تشارلز براون، مقترحًا على الكيان أن يركز بدلًا من ذلك على استهداف القيادة العليا لحماس. مع ذلك، يبدو أن صبر إدارة بايدن على سياسات الكيان بدأ ينفد، خصوصًا مع قرب الانتخابات الرئاسية والتشريعية في الولاياتالمتحدة، وانقسام معسكر بايدن الانتخابي حول العدوان الصهيوني على قطاع غزة، ما يعني أننا قد نشهد، خلال الأسابيع القليلة القادمة، تغييرًا أكبر في سياسة واشنطن ومقاربتها للحرب الصهيونية على القطاع.