تعيش فرنسا حالة ترقب غير معهود تحسبا لصدور أول عدد للأسبوعية الساخرة "شارلي ايبدو"، أسبوعا بعد العملية المسلحة التي استهدفتها وخلّفت مقتل عشرة من طاقمها الصحفي. ويسود مثل هذا "السوسبانس" بعد أن تضمن هذا العدد استفزازا واضحا تجاه المسلمين عامة والجالية المسلمة في فرنسا تحديدا، بعد أن أعادت نشر صور كاريكاتورية للرسول محمد عليه الصلاة والسلام على صدر صفحتها الأولى وهو يبكي ويعتذر عما حصل وهو يحمل شعار "أنا شارلي" التي نبذها حتى اليميني المتطرف جون ماري لوبان، وقال "أنا لست شارلي". فرغم وقع الصدمة التي خلّفتها العملية التي نفذت ضد هذه الصحيفة على خلفية الرسومات المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنها أصرت على مواصلة غيّها في تحد واضح لمشاعر 1,5 مليار مسلم بدعوى حرية التعبير. وإذا كان من بقي من طاقم هذه الصحيفة أراد من وراء صدور نشريتهم رغم ما تعرضوا له حقا مكفولا لتأكيد استمرارهم في الحياة فإن ذلك لم يكن داعيا لإعادة تكرار الخطأ نفسه الذي أودى بحياة عشرة من زملائهم. ويكون هذا التحدي لمشاعر الجاليات المسلمة في فرنسا وكل الشعوب الإسلامية، هو الذي جعل الجمعيات الإسلامية في هذا البلد تتوقع الأسوأ وطالبت كل المسلمين المقيمين فوق التراب الفرنسي بالإبقاء على هدوئهم واحترام مبدأ حرية التعبير الذريعة التي حملها هؤلاء للإساءة للرسول الكريم. وإذا سلّمنا بحرمة قتل النفس مهما كانت واحترام هذه الحرية التي تستعمل وفق مبدأ الكيل بمكيالين فإنه لا يجب بأي حال من الأحوال أن تنتهك قداسة دين سماوي وأن يصور نبيه على أنه إرهابي ويفرض على أتباع دينه عدم الرد وكتم مشاعرهم حتى وان كانت تضرب جوهر عقيدتهم. ولنسأل طاقم "شارلي ايبدو" إن كانت لهم الجرأة على انتقاد اليهودية أو حتى السياسة الصهيونية إذا سلمنا مسبقا بأنهم ليسوا يهودا تعمدوا الإساءة للإسلام ورسوله، وتصوير المسلمين جميعهم أنهم يحملون في كياناتهم نزعة إرهابية. ثم من تكلم من المسؤولين الفرنسيين ومختلف وسائل الإعلام عن حرق خمسين مسجدا في فرنسا منذ عملية الأربعاء الماضي، في حملة عداء لمتطرفين كان يجب أن يطبق عليهم قانون احترام حرية المعتقد والتعبير والرأي. وإذا كان الموقف كذلك فانه لا احد في فرنسا باستطاعته أن يمنع فرنسيا مسلما من حمل عداء وكراهية للصحيفة المستهترة، ومن يدري فقد تولد في داخله شعور بنفس الشعور الذي دفع من نفذ عملية الأربعاء الماضي الى تكرار ما حدث. ويكون ذلك هو الذي جعل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، يؤكد في مراسيم العزاء التي أقيمت لعناصر الشرطة الثلاثة الذين قتلوا في أحداث نهاية الأسبوع الماضي، أن الخطر مازال موجودا داخل فرنسا ومن خارجها أيضا" في دعوة الى البقاء على اليقظة لمواجهة هذا التحدي. وهي القناعة التي دافع عنها المنسق الأوروبي لمحاربة الإرهاب جيل دي كيرشوف، الذي حذّر من هجمات أخرى اعنف من تلك التي شهدتها العاصمة باريس بعد أن أكد على استحالة وقوعها ولكن منع بعضها دون الوقوع في مجتمع شمولي في إشارة إلى القوانين التي تسعى السلطات الفرنسية فرضها ضد كل شخص يشتبه في ميولاته المتطرفة. وهو التحدي الذي جعل الوزير الأول مانويل فالس، يعرض أمام نواب الجمعية الوطنية قائمة الإجراءات القانونية التي يتعين المصادقة عليها لتشديد القبضة على الإرهاب ومن بينها إعطاء الضوء الأخضر للتنصت على المكالمات الهاتفية للمواطنين الفرنسيين وعزل السجناء الإسلاميين عن بقية نزلاء السجون الفرنسية لمنع انتشار عدوى "الدعوة" بعد تقارير أمنية متأخرة أكدت أن شريف كواشي، وحميدي كوليبالي تم "تجنيدهما" عندما كانا في السجون الفرنسية. ولم تنتظر السلطات الفرنسية طويلا لإنزال أول عقوبات عندما أصدرت إحدى محاكم مدينة تولوز في جنوب غرب البلاد، حكما ضد مواطن فرنسي من أصول مغاربية بالسجن عشر أشهر نافذة بتهمة جهره بتأييده لما قام به الأخوان كواشي ضد "شارلي ايبدو". وقال النائب العام أنها أول قضية تعالج على خلفية قانون محاربة الإرهاب المصادق عليه في 14 نوفمبر الماضي، الذي شدد الإجراءات الخاصة بمحاربة هذه الظاهرة. في نفس اليوم الذي حكم فيه على فرنسي آخر من أصول أجنبية بعام سجنا غير نافذ بمدينة تولون في جنوب البلاد، بتهمة نشره في بريده الالكتروني صور جهاديين وتعليقات أشاد من خلالها بعمليتي "شارلي ايبدو" والمتجر اليهودي. وهي مجرد بداية لأحكام قضائية ينتظر أن تصدرها العدالة الفرنسية ضد من تعتقد أنهم يسيئون لمبادئ الحرية والديمقراطية في إحدى اكبر البلدان المدافعة عن العلمانية، ولكن من يحمي المسلمين والديانة الإسلامية من استهتار واستفزاز شارلي ايبدو وأخواتها؟.