أعطى الرئيس بوتفليقة بعدا كبيرا للحركة الواسعة التي أجراها مؤخرا في سلك ولاة الجمهورية. هي الحركة التي رافقتها حركة جزئية جرت بعيدا عن الأضواء في سلك الأمناء العامين للولايات ورؤساء الدوائر والدواوين. مصادر تتحدث أن هذه الحركة الأخيرة ستتبعها حركة أوسع. بُعْد (برفع الباء وتسكين العين) كاد يمر عاديا إذ لم يستوقف السياسيين ولا حتى الإعلاميين والصحافة الوطنية عموما التي اكتفت في غالبيتها بنشر خبر الحركة وقائمة أسماء الولاة المعنيين بالتعيين والتحويل والتقاعد أو إنهاء المهام. هذا البٌعد نستخلصه من خلال قراءة متأنية لتركيبة الولاة المعنيين أنفسهم، أي انطلاقا من بيان المؤهلات ومشوارهم المهني. الاستنباط الأول: من بين 18 واليا المعينين في هذه الحركة، ثمة 11 واليا متخرجا من المدرسة الوطنية للإدارة. بالطبع أن هؤلاء 11 واليا يضافون إلى الولاة الآخرين الذين لم تمسهم الحركة وحافظوا على مناصبهم ومتخرجون هم أيضا من المدرسة الوطنية للإدارة. الاعتماد على «الإداريين» أو النهل من أبناء الإدارة الوطنية، يؤكد التوجه الرسمي في الفصل بين السياسة والإدارة. اختيار أكثرية من «الولاة الإداريين» الذين قد ينطبق عليهم ويصح فيهم الوصف «الولاة التقنيين» على قياس ما يتم أحيانا في الحكومات التقنية بالنسبة لاختيار الوزراء يمكن أيضا أن يفهم على التزام رئيس الجمهورية بفرض حياد الإدارة وإبعادها عن التدخل في الحياة السياسية وشؤون الأحزاب لاسيما والجزائر تستعد لتشريعيات في ظل ضمانات الدستور الجديد. وعزم الرئيس بوتفليقة شخصيا أن تكون منطلقا مرجعيا في الشفافية ونزاهة الاقتراع بعيدا عن أي ضغوط أو شبهة ظلت سنوات طويلة تعكر صفو وسير الانتخابات. وأحيانا مبعثا للاحتجاجات والطعون والانتقادات، سواء من طرف الذين لم يحصلوا على ما كانوا ينتظرون من نسب وأصوات أوأحيانا حتى من طرف الفائزين. إذن البعد الأول لتركيبة الولاة يمكن اعتبارها رسالة طمأنة وحسن نية و«ضمانات مسبقة» من الرئيس بوتفليقة إلى الأحزاب على أن الإدارة أبعدت فعلا عن «تدخلاتها» المعهودة وأن التشريعيات القادمة ستكون فعلا «مستقلة» لا فيصل فيها بين المترشحين والأحزاب إلا الصندوق والصندوق وحده. نهاية عهد الكوطات وتعيينات الأضواء الخافتة اللجوء إلى إطارات المدرسة الوطنية للإدارة يمكن فهمه أيضا على نهاية عهد «الكوطات»، وتعيينات «الأضواء الخافتة». حتى صار حديث الكواليس والشارع الذي بالتأكيد يحتاج إلى موضوعية وإثباتات يتكلم على أن خلف كل وال جنرال ما أو مسؤول ما أو وزير ما أو «شكارة ما». المهم ترسخ في الأذهان أن الولاة لا يأتون هكذا أي بناء على شهاداتهم الجامعية والعليا أي على مؤهلاتهم وكفاءاتهم. وفي هذه الأحكام الجاهزة ظلم كبير وكثير لكثير من الولاة والإطارات التي تقلدت مسؤوليات نظير كفاءاتها وتضحياتها في أوقات صعبة وأزمات حادة. إن الإدارة الجزائرية دفعت ثمنا كبيرا في سنوات الجنون والإرهاب. كثيرون تصدوا لمخطط انهيار الدولة ومؤسساتها وما بدلوا تبديلا. بعض الولاة أغتيلوا بتهمة أنهم «وال». صمود كانت تحركه وطنية «واقفون»، ويترجمها استعداد غير مشروط ودون جزاء أو شكور للمؤامرة وبدافع خدمة الدولة الجزائرية. هؤلاء هم الأكثرية مهما تلطخت بعض الاستثناءات منهم وتورطت في أخطاء وفضائح الفساد وتجاوزات، لكن مع ذلك فإن هذا النوع يظل أقلية. موازاة، بل تنفيذا لبرنامج رئيس الجمهورية، فإن وزير الداخلية والجماعات المحلية من خلال تدعيم إدارته بولاة من «مدرسته» أي أبناء الإدارة (المدرسة الوطنية للإدارة)، فإن هذا العدد سيعطي دفعا قويا لإدارته على المستوى المحلي على صعيدين رئيسيين على الأقل: تعميم الإدارة الإلكترونية والرقمية من جهة وإعطاء دفع أكبر «للحكامة المحلية» بعصرنة التسيير المحلي وتكريس مبدأ الاعتماد على النفس لاسيما فيما يخص إنجاز المشاريع التنموية وتنويع المداخيل المحلية أو ما يرتبط بالتحصيل الجبائي. «دفعة الثمانينات» : 100...... أبناء الإدارة الاستنباط الثاني: أغلبية الولاة (أي 18 واليا) الذين شملتهم حركة التعيين والتحويل إضافة إلى تمتعهم بالشهادات الجامعية وخبرة الإدارة وبعض التخصصات الإضافية فهم من خريجي الثمانينات أو حتى بداية التسعينات (ما بين 1982 و1991). هذا ما جعل بعض المعلقين يصفهم ب «دفعة الثمانينات». هذا في حد ذاته تجديد وتشبيب يترجم انتقالا هادئا في تولي المسؤوليات الإدارية، فتسيير ولاية ليس أمرا هينا، وأحيانا فإن الشهادات العليا على أولويتها وأهميتها قد لا تكفي في إدارة ولاية بتعقيداتها المحلية وتشعباتها وحتى بصراعاتها وتوازناتها العروشية وأثقالها التنموية من بطالة وتأخر تنموي. لذلك فإن غالبية الولاة المعينين بل جميعهم تدرجوا في المسؤوليات الإدارية المحلية من مديرين تنفيذيين ورؤساء دواوين ورؤساء دوائر وأمناء عامين وولاة منتدبين. الاستنباط الثالث: غالبية الولاة الجدد أوالذين حولوا من ولايات إلى ولايات أخرى تنقلوا عبر أنحاء الوطن من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه. هذا يعني امتلاكهم لخبرة وإلمام كبير وشامل بمفاصل التنمية المحلية عموما أي في مختلف أنحاء الوطن أو على الأقل في عدد كبير من بلدياته ودوائره وولاياته. إضافة إلى معطيات التنمية وفرص الاستثمار في كل منطقة، تقلدوا فيها مسؤولية. هذا عامل مفيد في ممارسة المهام على الخصوص بالنسبة للولاة الجدد. في مخارج الموضوع، نريد أن نؤكد بأن حركة الولاة الأخيرة التي أجراها الرئيس بوتفليقة لم تكن عفوية أو عادية ولا حتى مألوفة. لقد أخرج الرئيس ولاة الجمهورية من «الضغوط المألوفة» التي كانت تربط كل وال «بولي نعمته»، بتعبير آخر الرئيس بوتفليقة يحرر الولاة عشية التشريعيات.