من طنجة إلى خريبقة، ومن فاس إلى مكناس مرورا بالدار البيضاء ومراكش ووصولا إلى الرباط كان المشهد واحدا في مختلف المدن المغربية التي عاشت أعنف المظاهرات الشعبية وسط هواجس مخزنية بعودة رياح الثورات العربية على الطريقة البوعزيزية إلى مملكة تتوفر على بذور ثورة شعبية عارمة على خلفية الموت طحنا لصائد السمك محسن فكري داخل شاحنة قمامة. وكان مقتل المواطن «الحوات» بتلك الطريقة البشعة وصورته التي اقشعرت لها الأبدان التي تم تناقلها على نطاق واسع في مختلف مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، عاملا موحدا للمواطنين المغاربة الذين خرجوا في مظاهرات احتجاجية التقت شعاراتهم في التعبير عن سخطهم من سلطات تم تحميلها مسؤولية ما وقع لمواطن يكسب قوت يومه من عرق جبينه. وكان التاريخ يعيد نفسه بعد أن أصبح محسن فكري يلقب ب «بوعزيزي المغرب» في إسقاط لصورة بوعزيزي تونس الذين كان انتحاره حرقا بالبنزين بمثابة شرارة اندلاع «ثورة الياسمين» التي أطاحت بنظام الرئيس زين العابدين بن علي وتوسع فتيلها إلى ثورات الربيع العربي الأخرى. واستشعر الملك محمد السادس خطورة ما حدث خاصة وأن وقع الصدمة كان كبيرا عندما أكد شهود أنهم سمعوا ضابط الشرطة وهو يعطي أوامر لسائق الشاحنة بطمر «الحوات» الذي حاول استعادة كميات السمك التي كان بصدد بيعها في سوق الحسيمة بعد رحلة صيد مضنية. وكانت صورته داخل شاحنة القمامة كافية لأن تشعل نار الغضب في أوساط شرائح شعب مغربي ناقمة خرجت في مظاهرات ساخطة بشعارات عكست كلها درجة الاحتقان التي يعيشها الشعب المغربي ضد»مخازنية» البلاط الملكي، وكان شعار «محسن مات مقتولا والمخزن هو المسؤول» وشعار «المغرب في حداد حتى يسقط الجلاد» كافية للتعبير عن درجة السخط الشعبي العام في مجتمع أنهكته معاناة البطالة والفقر والتباين المجتمعي الصارخ. ونغصت هذه الحادثة على زيارة الملك محمد السادس إلى دول شرق إفريقيا وحتمت عليه إرجاع محمد حصاد وزيره للداخلية على جناح السرعة إلى الرباط للوقوف على الحقيقة وإخماد نار ثورة شعبية محتملة. ولكن حتى أوامر الملك بفتح تحقيق لمعرفة ملابسات ما وقع لم تشف غليل مئات الآلاف من المغاربة الذين شككوا في تحقيقات جهاز شرطة كان أعوانه سببا في «طحن» الحوات المسكين في صورة لم يشهد العالم مثيلا لها. وحتى تنقل قيادات مختلف الأحزاب السياسية المغربية بمختلف توجهاتها الفكرية إلى منزل عائلة الفقيد بمدينة الحسيمة بمنطقة الريف «الثائر» لم يكن لها مفعول المهدئ الذي كانت تريده السلطات المركزية في الرباط بعد أن اعتبر الساخطون أنها مجرد زيارات بروتوكولية فرضتها المخاوف من تبعات تلك المأساة على خليفة أحداث تونس قبل قرابة ست سنوات. وحتى إن سلمنا هذه الزيارات أملاها واجب تقديم العزاء لعائلة مكلومة في عائلها الوحيد، إلا أن السؤال الذي يطرحه عامة الشعب المغربي وخاصة الذين يقدرون حجم كارثة مقتل محسن فكري: ما هي درجة العقوبة التي تشفي الغليل؟ وقناعتهم أن ذلك لن يتعدى التضحية ببعض أعوان الأمن ليكونوا كبش فداء مخزن لم يعد يحس بمعاناة الملايين. وهي حقيقة أكدتها الاتهامات والاتهامات المضادة بين مختلف أطياف الطبقة السياسية في محاولة لاستغلالها سياسيا ضمن صراع التموقع الذي تشهده الساحة السياسية المغربية منذ فوز حزب الإسلامي عبد الإله بنكيران بالانتخابات العامة بداية شهر أكتوبر الماضي. وقد وجدت أحزاب المعارضة المغربية التي رفضت الدخول في حكومة حزب العدالة والتنمية في مأساة عائلة «الصياد محسن فكري فرصة لاستغلالها سياسيا ضمن مسلسل الانتقادات الموجهة لهذه الحكومة التي أجمعت على فشلها الذريع في التكفل بمشاكل الشعب المغربي وخاصة الإيفاء بوعودها بالقضاء على معضلة البطالة التي ما انفكت نسبتها تزداد اتساعا من عام إلى آخر. ورغم الحسابات الضيقة لهذا الطرف أو ذاك إلا أن الجميع لا يريد لموجة الغضب أن تشتد وتكبر بمثل كرة الثلج لأنها كلما كبرت، زاد خطرها الداهم على الجميع، طبقة سياسية وشعبية على السواء. وهو ما يسعى الملك محمد السادس إلى تجنبه وتفادي الوقوع في متاهته ضمن مساعي لعب دور رجل المطافئ لإخماد جمرة نار «ثورة شعبية» ومنع تحولها إلى لهب حارق لن ينجو منه أحد. ولكن هل ينجح الملك محمد السادس في هذه المهمة بعد أن وقعت «الفأس في الرأس»، وهل الاكتفاء بمعاقبة المتسببين في مقتل مواطن يكدح لكسب قوت عائلته بالحلال سيكون الماء البارد الذي يطفئ جمرة متقدة؟