تشهد اليوم، مختلف المدن الأمريكية مسيرات احتجاجية ضخمة ستكون مناسبة أخرى لآلاف الأمريكيين للتعبير عن مدى تخوفهم من المواقف والتصريحات النارية التي أدلى بها الوافد الجديد على البيت الأبيض، الرئيس دونالد ترامب. واستغل هؤلاء عطلة نهاية الأسبوع لمواصلة مظاهراتهم، سيرفعون خلالها شعارات رافضة لما حملته خطبه تجاه العديد من قضايا الشأن الداخلي الأمريكي والقوانين السارية والتي تعهد بإلغائها أوإدخال تعديلات جذرية عليها في سابقة أعطت صورة كاريكاتورية لمجتمع يتبنى مبادئ الديمقراطية واحترام حكم الصناديق. وبقدر ما استقبل الأمريكيون فوز ترامب بكثير من التوجس والخوف، ساد الشعور نفسه مختلف عواصم دول الاتحاد الأوروبي عكسه الاجتماع الطارئ الذي سيعقده وزراء خارجيتها اليوم بالعاصمة بروكسل لدراسة الموقف واتخاذ القرارات المناسبة في ظل التصريحات النارية التي أبداها الرئيس الأمريكي الخامس والأربعين تجاه حلفائه الأوروبيين وأثارت استغرابهم حد الصدمة، كونها سابقة في تاريخ العلاقات الإستراتيجية بين ضفتي الأطلسي. وهو ما عبر عنه رئيس اللجنة الأوروبية، جون كلود جينكر الذي طالب في تصريحات عكست درجة التذمر السائدة في دول الاتحاد الأوروبي وقال «إنه يتعين على ترامب أن يتعلم ماذا تعني له أوروبا وأن ذلك سيكلفه عامين كاملين للوقوف على حقيقة الوزن الذي تمثله أوروبا ما دام يعتبر بلجيكا مجرد قرية نائية. وما زال الرئيس الأمريكي الجديد يثير التساؤلات حول كيفية تعامله مع الواقع الداخلي الأمريكي ومع مقاربات السياسة الخارجية لبلاده في وقت يعرف فيه العالم تحولات جذرية كانت الإدارات الأمريكية طرفا مباشرا في حدوثها. وعلى غير عادة الانتخابات الأمريكية، فإن مرحلة ما بعد «الثلاثاء الكبير» أحدثت الاستثناء وراحت ردود الفعل تتساءل حول ما إذا كان ترامب سيتمسك بمواقفه التي حملت في سياقها وجهات نظر لم يعهدها الأمريكيون وحتى الدول الحليفة التي أصيبت بالذهول وهي تتابع تصريحات الملياردير التي سارت إلى نقيض مواقف تقليدية للولايات المتحدة. وراح بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة وهو على أبواب مغادرة الأممالمتحدة وهو يمني نفسه بأن ترامب المرشح لن يكون حتما ترامب الرئيس وأعطى مثالا على ذلك بأن هذا الأخير لن يتراجع عن اتفاق المناخ الموقع العام الماضي بالعاصمة الفرنسية باريس وأن إدارته تواصل العمل لصالح الإنسانية والتعامل مع الأممالمتحدة في هذا المجال. وكان ترامب كسر طابوهات ميزت عهدة سابقه الرئيس المغادر باراك أوباما عندما أكد أنه سيحدث تقاربا مع روسيا، وهدد بتقليص مساهمة بلاده في ميزانية الأممالمتحدة وتعهد أيضا بالتراجع عن اتفاق باريس حول المناخ الذي صادقت عليه بلاده رفقة 195 دولة شهر ديسمبر من العام الماضي بالعاصمة الفرنسية وإدخال تعديلات جذرية على الاتفاق النووي مع إيران. والواقع أن تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية والتي خالفت العرف الأمريكي في مثل هذه الظروف تدفع فعلا إلى التخوف حد التوجس من مواقف راديكالية تحت غطاء البراغماتية التي رفعها شعارا لحملته والتي قد تزعزع النسق الدولي العام الذي دأب الرؤوساء الأمريكيون المتعاقبون على البيت الأبيض على تكريسه ضمن حماية الأمن القومي الأمريكي في كل مناطق العالم وإن اختلفت أدوات ومقاربات تجسيد ذلك. وهو التخوف الذي بلغ أوجه داخل الحلف الأطلسي التي أصيبت دوله بصدمة حقيقية مازالت تبعاتها تخيم على أكبر حلف عسكري في العالم وتعد الولاياتالمتحدة قطبه الرائد. وقال ترامب خلال حملته الانتخابية أن «الناتو» منظمة تحولت إلى عبء على بلاده وأن عهد البقرة الحلوب قد ولى وأن الدول الأعضاء ملزمة بدفع اشتراكات أكبر لتسيير هذا الحلف وعدم الاتكال في كل مرة على ما تدره الولاياتالمتحدة. وكان لمثل هذا التصريح غير المعتاد وقع الصدمة على أعضاء أكدوا أن الوقت غير موات لقول ذلك ضمن موقف عكس درجة الذهول داخل الحلف الذي شكل إلى غاية الآن أداة الإدارات الأمريكية في تنفيذ استراتجياتها العسكرية في كثير من نقاط العالم ضمن لعبة التوازنات الكبرى التي فرضتها الحرب الباردة وفترة الانفراج التي تلتها بعد سقوط جدار برلين وبما يخدم مصالحها الإستراتيجية كقوة رائدة في العالم. ولكن بان كي مون ومختلف القادة الأوروبيين مازالوا يمنون أنفسهم أن ترامب سيغير مواقفه بقناعة أنه سيكون خاضع لإرادة فريقه الرئاسي وما تمليه مختلف اللوبيات والتعاطي اليومي مع مختلف قضايا العالم. وهو احتمال وارد جدا إذا سلمنا بتصريح الرئيس ترامب الذي أكد أمس أنه اتصل بالرئيس بيل كلينتون زوج منافسته هيلاري وقال إنه لا يرى أي حرج في أن يتعاطى إيجابا مع نصائحه لإدارة الشأن العام الأمريكي ضمن رسالة طمأنة باتجاه الرأي العام الأمريكي الذي أصيب بانتكاسة حقيقية بعد مفاجأة الثلاثاء الماضي. وهي رسالة تهدئة لم تمنع آلاف الأمريكيين من مواصلة مسيراتهم الاحتجاجية ضد رئيس وصفت تصريحاته ب»المتهورة» وتمس بتجانس المجتمع الأمريكي بكل مكوناته العرقية والدينية وأيضا بسبب تخوفهم من الغد غير المضمون.