يترقب الأمريكيون وكل العالم مضمون أول خطاب سيلقيه الرئيس دونالد ترامب مباشرة بعد أدائه اليمين الدستوري وتسلم مهامه من سابقه باراك أوباما، كونه سيحدد الإطار العام للسياسات الأمريكية الداخلية والخارجية للأربع سنوات القادمة. وسيحظى الخطاب الذي سينقله التلفزيون الأمريكي بأكبر متابعة في العالم بالنظر إلى الأفكار والتصريحات غير المعهودة التي تضمنتها خرجات دونالد ترامب طيلة حملته الانتخابية لرئاسيات نوفمبر الماضي والتي خرجت عن مألوف الخطاب التقليدي لكل الرؤساء الأمريكيين الذين سبقوه إلى البيت الأبيض. ويؤدي ترامب منتصف نهار يوم غد بالتوقيت الأمريكي رفقة نائبه مايك بانس اليمين الدستوري ليصبح بصفة رسمية الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة قبل تنقله إلى «الكابيتول» مقر الكونغرس رفقة سابقه باراك أوباما في حفل سيحضره نواب غرفتي الهيئة التشريعية وقضاة المحكمة العليا والسفراء المعتمدون، بالإضافة إلى الرؤساء السابقين، جيمي كارتر وجورج بوش وبيل كلينتون وحرمه هيلاري كلينتون. وقد تعهد ترامب وهو يحمل شعار «استعادة أمريكا عظمتها» بإحداث قطيعة مع سياسات سابقه، بدء بقانون الصحة ووصولا إلى معاهدة حماية المناخ، مرورا بالاتفاق النووي مع إيران. وبغض النظر عن مواقفه من قضايا الشأن الداخلي الأمريكي، فإن تولي ترامب مقاليد السلطة في واشنطن يحظى باهتمام كل العالم ليس لأن بلاده تبقى القوة الكبرى في العالم، ولكن بسبب مواقفه التي ذهبت من النقيض إلى النقيض بخصوص العديد من قضايا الشأن الدولي وجعلت كل عواصم العالم في حالة ترقب لمعرفة ما ستتضمنه ما أصبح يعرف ب «العقيدة الأمريكية الجديدة» التي ستحمل دون شك مقاربات قادرة على إحداث تغييرات في كل قواعد العمل الدبلوماسي الدولي بما قد يخلط حسابات الأعداء والأصدقاء في آن واحد. فلم يكن أحد يتوقع أن يخرج ترامب عن قاعدة العداء المطلق ضد روسيا إلى احتمال تحولها إلى حليف، ومن شريك استراتيجي للاتحاد الأوروبي إلى راغب في تفكيكه والعمل في المقابل على تفعيل محور واشنطنلندن وهي كلها قضايا إن هو واصل في نفس سياقها فإن ذلك سيؤكد أن العالم مقبل على تحولات جذرية في علاقات بلدانه. وكما أن اختيار ترامب لبريطانيا لأن تكون أول محطة له في أول زيارة يقوم بها إلى الخارج بعد استلامه مهامه لم يكن اعتباطيا كونها تحمل دلالات قوية على توطيد العلاقات الأنجلو ساكسونية بين ضفتي الأطلسي. ولكنها أيضا رسالة قوية باتجاه اتحاد أوروبي أصبحت واشنطن تنظر إليه كمنافس يهدد مكانتها الاقتصادية بدلا من شريك يمكن الاعتماد عليه في مواجهة المنافسة القادمة من الصين وحتى من اليابان وعدد من القوى الاقتصادية الصاعدة. وفهمت أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بحكم دور بلديهما الريادي في الاتحاد الأوروبي، سيل الرسائل المشفرة التي ما انفك الرئيس الأمريكي الجديد يبعث بها تباعا ضد أوروبا الموحدة منذ خاض الحملة الانتخابية ضد منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، والتي سارت جميعها في سياق إعادة النظر في علاقة تكرست طيلة سبعة عقود وعكست التضامن الأمريكي الأوروبي منذ الحرب العالمية الثانية ضد المعسكر الشيوعي المنهار وضد الصينواليابان. وهي نفس المقاربة التي دافعت عنها الوزيرة الأولى البريطانية تريزا ماي أول أمس عندما حيّت موقف الرئيس الأمريكي المرحب بخروج بلادها من الاتحاد الأوروبي في تأكيد على تغيير وجهة تعاملات بلادها باتجاه الولاياتالمتحدة في نفس سياق رغبة الرئيس ترامب في التعامل مع الدول الأوروبية ليس كتكتلة واحد ولكن دولة بدولة حتى يتمكن من فرض شروط بلاده لاستعادة دورها المتراجع كقوة اقتصادية أولى في العالم. مقاربة تصب أيضا في نفس اتجاه مواقف الرئيس الأمريكي الجديد التي أبداها ضد الحلف الأطلسي رغم أن بلاده تبقى أهم شريك فيه بالأموال والقوات، بل إنها الدولة العضو التي استعملت الحلف لتنفيذ مخططاتها في أفغانستان والعراق قبل أن ينقلب عليه الرئيس الجديد بشكل مفاجئ. وإذ سلّمنا بأن الاقتصاد سيكون محرك العلاقات الدولية في عالم الألفية الثالثة بدلا من القوة العسكرية التي طغت على مرحلة الحرب الباردة، فإن الرئيس الملياردير سيكون أكبر عارف بخبايا وأسرار التعاملات التجارية والاستثمارات، بما يؤهله لأن يكون بمثابة خبير في كل ما يدفع ببلاده لأن تقضي على كل منافسة اقتصادية قادرة على مضاهاتها واستعادة مكانتها الأولى التي أصبحت مهددة بصحوة العملاق النائم، الصين التي تحولت في زمن قياسي إلى مصدر قلق متزايد للاقتصاد الأمريكي. وهو ما يجعل الرئيس الأمريكي موضوع استكشاف مادامت كل قراراته ستمس كل المعمورة وأن أول تنفيذ لوعوده سيحكم على مدى جديته في الإيفاء بالتعهدات التي قطعها على نفسه والحكم عليه إيجابا أو سلبا وخاصة وأن ما يقال في العرف الأمريكي لا يعني إمكانية تطبيقه وخاصة في ظل تجاذبات مصالح مختلف اللوبيات وقوى الضغط المختلفة والتي لا تذهب بالضرورة في نفس سياق الساسة في البيت الأبيض.