* email * facebook * twitter * linkedin تحيي الجزائر الذكرى السابعة والخمسين للاستقلال (5 جويلية 1962) في ظروف سياسية خاصة تعيشها البلاد منذ 22 فيفري الماضي، وصادفت ذكرى يوم الجمعة الذي دأب فيه الجزائريون على تنظيم مسيرات سلمية للمطالبة بتغييرات سياسية عميقة بأساليب حضارية أدهشت العالم بأسره، متشبثين بالوحدة الوطنية رغم محاولات التشويش على "الحراك" التي أفشلها وعي الشباب الذي أثبت بالقول والعمل حسا وطنيا كبيرا، لا يقل عن الحس الذي ميز أجداده وآباءه من الشهداء والمجاهدين سواء من سقط منهم في ساحات الوغى أو من كتبت لهم الحياة وأعادوا بناء الوطن، كما استعادوا استقلاله بفاتورة قوامها مليون ونصف مليون شهيد. وسيشكل إحياء ذكرى 5 جويلية محطة جديدة لإجراء مسح حول الأشواط التي قطعتها البلاد منذ الاستقلال وتجديد العهد مع الشهداء ببناء جمهورية ديمقراطية شعبية في إطار المبادئ الإسلامية، كما نص عليها بيان أول نوفمبر 1954، البيان الذي رمى بالثورة إلى الشارع فاحتضنها الشعب الذي كتب أعظم ملحمة في القرن العشرين، وها هو نفس الشعب ينتفض بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال لتصحيح المسار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي أنهكته مظاهر الفساد والنهب التي طالت الكثير من القطاعات الحيوية في البلاد. وبذلك ينتظر أن يكون خروج المواطنين يوم غد الجمعة رسالة قوية لأعداء الداخل والخارج بأن المصلحة العليا للجزائر فوق الخلافات الفئوية والتجاذب السياسي والحسابات الضيقة، وأن وحدة البلد الشعبية والترابية غير قابلة للنقاش، ناهيك عن المساومة، هذا كان حلم الشهداء في 1954 وهذه هي إرادة الشعب في 2019 إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. كما ينتظر أن تكون جمعة "5 جويلية" مغايرة لسابقاتها، كونها ستستحضر الكثير من المعاني والأبعاد الوطنية التي تكون قد فشلت المناهج الدراسية في إيصالها إلى الجيل الجديد، والتي تجلت في الروح الوطنية العلية عند شباب مراهق وطلبة جامعيين منذ بداية الحراك، حيث أبوا إلا أن يخرجوا من أجل مستقبل جديد للجزائر التي تزخر بالكثير من الخيرات، جزائر متطورة ومزدهرة لطالما حلم بها الخيّرون في هذا الوطن. إننا نتطلع أن تكون "جمعة 5 جويلية 2019" موعدا للحسم في تبني الحلول الكفيلة بالخروج من الأزمة الحالية في الشرعية الدستورية لسد الطريق أمام المجازفين بمستقبل الشعب والوطن من المنادين بالحلول السياسية البحتة التي لا مرجعية لها يمكن الاحتكام لها عندما تتضارب الآراء وتختلف المواقف وتطغى الأهواء على العقل والمنطق والمصلحة العامة. لقد قطع الحراك جل الطريق نحو تحقيق مطالب الشعب منذ الأسبوع الأول من خروجه إلى الشارع للمطالبة بالتغيير السياسي الجذري وبناء جمهورية جديدة قوامها العدالة والحرية والكرامة، وقد تحقق قطع هذا الشوط الهام في مسيرة التغيير بفضل اصطفاف الجيش الوطني الشعبي مع الشعب وتبنيه لمطالبه المشروعة وإعلان مرافقته لتحقيقها. ويبقى على العناصر الفاعلة في هذه المسيرة من حراك وأحزاب سياسية وشخصيات وطنية أن تحسم أمرها وتسهل، بل وتسرع بقطع ما تبقى من مسيرة التغيير بانتخاب رئيس جمهورية، يستمد شرعيته من الشعب ليشرع بعدها في تجسيد الجمهورية الجديدة المنشودة، وليس عزيزا أن يكون الخامس جويلية 2019 المنعرج الأخير في حل الأزمة. وما يجعلنا نراهن على نجاح هذه الهبة الشعبية التي ستخرج "من أجل الجزائر" هو الدعوات التي وجهها النشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتجنيد أكبر عدد من المواطنين، لإبراز حسن النوايا ودحض محاولات اللعب على ورقة الهوية والرموز الوطنية، مثلما أظهر ذلك في بدايات الحراك، حيث أعطى أجمل صور التضامن التي أبهرت العالم. ومثلما ستصل رسالة الشعب الرافض للظلم إلى القاصي والداني، فإنها ستصل بلا شك إلى الشهداء الذين ناضلوا لصد محاولات اقتلاع الهوية الوطنية من جذورها، حيث اصطدم مستعمر الأمس بحصن التشبث بالحرية ورغبة فولاذية في العيش بسلام في جزائر مرصعة بتاج حرية صنعته أيدي أبطال الثورة المجيدة وشهداؤها الأبرار. 57 سنة من الاستقلال لن تكفي لمحو آثار جرائم الإنسانية والثقافية والاقتصادية التي اقترفتها فرنسا في الجزائر، بل ستظل دروسا يستخلص منها الجزائريون معاني التلاحم والتصدي لمحاولات التدخل في شؤونه الداخلية، لاسيما وأن جزائر الاستقلال لم تكن في منأى عن الأزمات ومحاولات التدخل الخارجي والإملاءات وضغوط من أجل مراجعة العديد من مواقفها، وكلفها ذلك الكثير طيلة عشرية دموية كادت تعيدها إلى حالة الضعف الاقتصادي غداة الاستقلال وآثار الاستعمار الهمجي. ورغم النقائص التي مازالت تعتري المسيرة التنموية للبلاد والتي كان بإمكانها تحقيق خطوات أكبر في تاريخ الجزائر الحديث، لا بد من الإقرار بتسجيل مكاسب إيجابية لاسيما بعد استعادة البلاد أمنها واستقرارها عبر ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، فضلا عن الطفرة التي شهدتها السوق النفطية التي سمحت بإطلاق العديد من المشاريع والورشات والتخلص من المديونية الخارجية وتبعاتها الاقتصادية والسياسية. فقد أنجز قرابة 3 ملايين وحدة سكنية خلال العشريتين الماضيتين، وعمليات ترحيل واسعة انتشلت آلاف العائلات الجزائرية من مساكن هشة وفوضوية إلى جدران تضمن عيشا كريما بعد سنوات من الغبن. كما تحصي الجزائر بعد 57 سنة من الاستقلال مئات الآلاف من خريجي الجامعات المنتشرة في جميع ولايات الوطن، فضلا عن إنجاز معاهد تكوين تضاعف فيها عدد المتخرجين إلى 280 ألف خلال العقدين الماضيين واستوعبت بشكل كبير ظاهرة التسرب المدرسي، لتقدم يد عاملة مؤهلة للشغل بصيغ متعددة بدءا من الوكالة الوطنية للتشغيل وأجهزة دعم الشباب لخلق مؤسسات مصغرة في إطار القرض المصغر أو "أونساج" أو صندوق التأمين على البطالة، ما سمح بخلق أكثر من 500 ألف مؤسسة مصغرة ومتوسطة. كما لا يمكن أيضا إغفال دور رجال آثروا المرابطة على الحدود وتقفي آثار الإرهابيين والجريمة المنظمة تحت لواء جيش عقد العزم على التحرير في الماضي وعاهد على الحفاظ على الجمهورية والوحدة الوطنية في أجواء دولية مشحونة بالتوترات والنزاعات، مدعوما بدبلوماسية فعالة أثبتت سداد مواقف الجزائر إقليميا ودوليا لاسيما في حل الأزمات سياسيا ورفض التدخل العسكري وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. ورغم محاولات جر جيشها إلى مستنقعات وبؤر التوتر تارة، والضغط بالتقارير الدولية المغلوطة تارة أخرى، فإن الجزائر ظلت صامدة بجيشها الذي استطاع تحييد العديد من الإرهابيين وتوقيف المتاجرين بالمخدرات وضبط أطنان من الكوكايين والكيف المعالج والأقراص المهلوسة، فضلا عن تحصين البلاد من مختلف المخاطر الآتية من الحدود لاسيما في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد.