* email * facebook * twitter * linkedin تتلون الطبيعة بأطياف السماء، عاكسة الجمال والبهاء والهدوء الساكن بعيدا عن الثورة والقبح والقحط، لتمتد هذه الحال أيضا إلى كل ما هو جميل في تراثنا الجزائري العريق، بملامح الطيبة والتسامح، وتعود الريشة إلى "أيام البركة والعز"؛ حيث لذة العيش واستقرار النفس وبساطة اليوميات، وهي أمور تحث على الإبداع والتفكر في أسرار ذلك الهناء وطيب المستقر.. هي صور وأحاسيس ملأت معرض الفنانَين سيد أحمد حمداد وعبد القادر حمري، المقام حاليا برواق "محمد راسم" بالعاصمة. تقابل هذه الحياة الجميلة والملونة الزائر وهو يضع قدمه على عتبة المعرض، والبداية مع الفنان المخضرم سيد أحمد حمداد، الذي أبدع في كل لوحاته، التي اختار لمعظمها الأسلوب الكلاسيكي الواقعي، ليثمن التراث أكثر، ويظهره للعيان كنوع من التحسيس تجاهه، مع تكريس مفهوم الهوية في أعماله، والاهتمام بأسلوب تشكيلي أكثر أصالة، واختيار لغة فنية وجدانية معبّرة عن رقيّ وجمالية الماضي الجميل، وبالتالي نجد المعرض يفوح بعبق التاريخ، مع محاولة توظيف مرجعيات جمالية من عمق ذلك التاريخ خاصة الاجتماعي منه؛ في إبداعات فنية ذات نزوع، يستلهم من خصوصيات وتفاصيل تراثنا، وهو الأمر الذي شكل حافزا وهاجسا في كيفية تمثل هذا التراث واعتماده كمرجعية جمالية، وبطريقة تميزه عن غيره من الفنون، وهنا يظهر هذا الفنان منتجاً، يعتمد على عمق الثقافة الجزائرية التي هي ركن في ذاكرته، وموقف حضاري موصول بإنسانيته ومشاعره ذات حنين طاغ لكل هذا الماضي الجميل، الذي بقيت بعض تجلياته موجودة إلى يومنا في أماكن كثيرة من الجزائر القارة. ولا شكّ في كون تجربة هذا الفنان المحترف استثمرت في أعماله؛ بتصور فكري واجتماعي رصين، أساسه مرجعية التراث. كما استطاع المعرض فرض حس مشترك وميول واستعدادات وتقدير وتثمين من الجمهور الذي التقته "المساء"، وكان سعيدا بالأعمال التي ترسخ الجمال والرقي الجزائري ويعيد الذاكرة إليها، مثلما كانت الحال مع جماعة من الرجال، دخلوا المعرض، وأصبحوا يفتشون عن مواقع عاصمية تاريخية بعينها، منها، مثلا، الأميرالية، ثم يدققون في تفاصيل بعض اللوحات خاصة الكبيرة منها. ورسّخ المعرض القيم الاجتماعية والعادات والتقاليد التي هي جزء مهم من الرأسمال الثقافي، محترما في ذلك المعايير الفنية والتقنية التي تعكس التكوين والخبرة. واستثمر الفنان حمداد في الهوية الفنية بوصفها قيما أصيلة وفريدة للعمل الفني لا ينبغي التخلي عنها، مع الالتزام بإعادة البحث فيه عبر بصمة خاصة، مع عدم قابلية حضور الفن إلا بكونه إنسانيا بامتياز. أعمال حمداد تتنوع بين الواقعية والرمزية حسب المواضيع والتقنيات التي يعتمد عليها، وقد أنجزها الفنان بين عامي 1998 و2017، علما أن حمداد تعود علاقته بالرسم إلى أواخر الستينات، وأعماله تتركز على تصوير التفاصيل، وذلك ما يمنحها الحيوية والجاذبية. ومن بين ما عُرض "المرأة بالحايك" و«العجوز" و«آثار منصورة" و«قناة الصرف الرومانية" و«الشمعة" و«الحياة" و«ظل القصر" و«مكان تحت الشمس"، وغيرها من اللوحات الفاتنة التي نطقت أمام الجمهور. التراث يفرض نفسه لم يكن الفنان عبد القادر حمري أقل حضورا في هذا المعرض المشترك الذي جمعه بزميله حمداد، فقد قدّم بدوره لوحات جميلة جدا. ويستلهم حمري موضوعات لوحاته المعروضة من البيئة الغنية بتراثها المادي وغير المادي، مصوراً امتزاج رمال الصحراء الذهبية بمياه البحر الأبيض المتوسط. ويركز حمري في أعماله التي أنجزها بين 2016 و2019، على تجسيد بيئة بعض المدن الساحلية؛ إذ يحتفي بالآثار القديمة المنتشرة فيها، ويرسم وجوه نساء يرتدين "الحايك"، وهو اللباس التقليدي في كثير من المناطق الجزائرية. ويعرض حمري ست لوحات يصور فيها بعض محطات القطار التاريخية، والتي يعود تاريخ إنجازها إلى فترة الاستعمار الفرنسي، منها محطات تيارت وسعيدة والمدية، وهي لا تقل جمالا عن المحطات التي نراها في الأفلام السينمائية الكلاسيكية المصنفة بالروائع الفنية. وقد اعتمد في رسمها على تقنية الأكواريل. كما يعرض مناطق عدة من الجزائر، منها مقبرة تاغيت ببشار و«الربيع" و«الخامسة" و«واد بوسعادة" و«مقام الولي الصالح". واعتمد الفنان على الواقعية؛ لأنها لغة تشكيلية تمتاز بقيمة توثيقية تتلاءم مع تدوين التراث. كما أن هذا الأسلوب تفهمه شريحة كبيرة من الجمهور، وليس حكرا فقط على النخبة، وكل لوحة كانت بمثابة سفير للتراث الجزائري. كما يتحول الرسم عند هذا الفنان إلى لغة أدبية من الروائع، تُكتب فيه مئات الصفحات في لوحة واحدة؛ حيث تتفنن الريشة في صياغة الألوان والأبعاد، وتحوّل الشخوص إلى أبطال حكاية شعبية راسخة في الذاكرة. للإشارة، فإن الفنان حمري من مواليد سنة 1959 بشرشال، ومن مؤسسي المهرجان الوطني للفنون التشكيلية، وعضو المجلس التوجيهي بمدرسة الفنون الجميلة بتيبازة، وعضو بالمجلس الوطني للفنون والآداب، واسمه مذكور في قاموس الفنانين التشكيليين الجزائريين، ومتحصل على عدة جوائز وطنية ودولية، وله العشرات من المعارض منذ سنة 1990.