لم أكن أتخيل يا عمي مرزاق أن يأتي اليوم الذي أخط فيه قلمي لأكتب عنك وأنت تحت التراب. تخدعنا الحياة، ونتخيل أنفسنا وكل من نحب، بأننا خالدون، ليأتي الموت هكذا ويطبق قوانين الطبيعة، لا أحد يخلد إلا وجه الرحمن. أذكر أول مرة التقيت فيها بك كان عمري 15سنة؛ أي منذ 25 سنة، قضيت فيها تلك الليلة في بيتك مع ابنتك التي أصبحت صديقتي المقربة جدا، وشدني أنك لا تنام ليلا، بل تكتب وتكتب باستمرار، لأكتشف أنك كاتب. كاتب! يا لها من مهنة رائعة! كيف لا وأنا التي طالما حلمت أن أكون كاتبة، وأن أعيش حيوات أخرى بعيدة عن الحياة المملة التي تفرضها علينا مشاق الحياة في بلد يكاد يخلو من البهجة! منذ ذلك اليوم بدأت في التقرب منك. كنتَ تعتبرني ابنتك، وكنت أراك والدا ثانيا بالنسبة لي. في كل مرة كنت أسألك عن الوصفة الواجب اتباعها لكي أصبح كاتبة، وكنتُ كلي شوق لأسمع ردك عنها؛ أنت الكاتب اللامع والمترجم الفذ، فكانت إجابتك الأخيرة التي أرسلتها لي في رمضان الفارط عبر الإيميل، مثل تلك التي أخبرتني بها حينما كنت شابة في العشرين؛ "اِقرئي أمهات الكتب، واكتبي كل يوم، كل شيء يأتي بالممارسة اليومية". آلمني جدا يا عمي مرزاق تحسُّرك وحزنك لأنك لم تعد تكتب ولا تقرأ، فحينما وجدتَ نفسك في الفترة الأخيرة عاجزا عن ممارسة هاتين الهوايتين أم الحاجتين، شعرت بحزن بليغ. ذكّرتني فيه بالأديب اللبناني جبران خليل جبران، الذي عبّر، بدوره، عن تعاسته؛ لأنه لم يعد يستطيع أن يكتب، ربما عمي مرزاق كانت تعاستك أبلغ؛ لأنك لم تستطع أيضا القراءة. آه يا عمي مرزاق، كم أشتاق إلى صوتك المبحوح، وإلى ثقافتك التي لا تحدّها حدود! كنتَ دائم السؤال عني. لم أكن أعلم أنني حينما اتصلت بك في يوم عيد ميلادك المصادف ل 13 جوان، أنه سيكون عيد ميلادك الأخير، كنتَ سعيدا بإخباري بصدور عمل لك تحت عنوان: (مدينة تجلس على طرف البحر). كما لم أكن أعلم حينما أتيتَ إلى بيتي العائلي لتقديم واجب التعزية في رحيل والدي في 18 ديسمبر 2019، أنه بقي لك عام و15 يوما وتغادرنا إلى الأبد. لن أكتب عمي مرزاق عن مسارك الأدبي الذي يعرفه الكثيرون، ولا حتى عن مناقبك التي لا تُعد، ولا عن أخلاقك التي لا تُحصى، ومع ذلك أريد أن أذكر كرمك؛ سواء من ناحية السؤال عن الجميع، أو عن تصدّقك بمالك كل شهر للمحتاجين. كان وجهك يشعّ منه النور، وقلبك يفيض طيبة. كنتَ إنسانا مؤمنا، تقيّا، كريما، صدوقا. وكل من يلتقيك يستفيد من ثرائك المعرفي. كما كنتَ تحب كثيرا سماع الأغاني القديمة وكذا السيمفونيات العظيمة، كانت حياتك كلها ثقافة، وتصرفاتك أيضا؛ فلا عجب إن اهتز الوسط الأدبي لفراقك. كنتُ في كل مرة أكتب عن أعمالك أو أُجري حوارات معك تحدّثني عن أمرين، وهما عشقك للبحر، وصدقك في الكتابة، وهما أمران في غاية الأهمية لك. أذكر أيضا أنك قلت لي إننا لسنا بحاجة إلى خصومات بين الأدباء الجزائريين في وقت "لسنا كثرة"، وكنتَ تقصد بذلك أن الجزائر بمساحتها الواسعة لا تملك الكثير من الأدباء، فكيف لهم أن يتخاصموا فيما بينهم! زرتُك في بيتك خمسة أيام قبل رحيلك، لا أدري لماذا ألححتُ على زيارتك رغم جائحة كورونا. حدثتُك عن إعجابي الكبير بروايتك (مدينة تجلس على طرف البحر)، أخبرتك أنني شعرتُ وكأنني طفلة صغيرة أعيش في مدينتك العين الباردة بالعاصمة، فقلت لي إنه سيكون هناك كتاب آخر؛ كم تمنيت ذلك يا عمي مرزاق! كم تمنيت ذلك! حينما فارقتك دعوت الله أن يشفيك، فقلت لي شكرا.. آه يا عمي مرزاق، كم أنت خلوق حتى وأنت على فراش المرض! رحلتَ وفي جعبتك الكثير مما لم تكتبه بعد، أنت من طينة الكبار يا كبير. أدعو الله أن يرحمك، وأن يرزقك جنة الخلد. حظّي كبير أنني تعرفتُ عليك عن قرب، وسأظل أدعو لك بالرحمة إلى مماتي.